الأديرة القبطية.. أقدم جامعات روحية على أرض مصر
الأديرة القبطية.. أقدم جامعات روحية على أرض مصر

الدير هو مساحة من الأرض يتفرّغ فيه مجموعة من (الرهبان) أو (الراهبات) للعبادة والنسك والتأمل في الخالق، وتعتبر الأديرة القبطية هي أقدم مؤسسات تعليمية روحية باقية حتى الآن، فمنذ نشأت فكرة الرهبنة على يد القديس أنطونيوس الكبير، وهو أول راهب في العالم ويسمى (أبو الرهبان) في أواخر القرن الثالث الميلادي، أي بعد دخول المسيحية إلى مصر بحوالي 250 سنة، عرف الرهبان طريقهم إلى هذه المؤسسة، بعدما كان بعضهم يفضّل العيش في الصحراء (البريّة)، ومناجاة الخالق، بشكل فردي، وفي بيئة خالية من البشر بعيدًا عن عواصم المدن.

ونستعرض في هذه السلسلة معلومات عن الأديرة القبطية العامرة، التي يفضل السائحون التعرف عليها عن قرب عند زيارة مصر، خاصة لأنها اكتسبت قيمة تاريخية وثقافية كبيرة، بجانب قيمتها الدينية، لاحتفاظها بحالها وطقسها وشكلها منذ ما يقرب من ألف وسبعمائة عام.

نشأة الرهبنة القبطية

تعتبر الكنيسة القبطية هي مَن قدّمت حركة الرهبنة إلى العالم، ويعتبر المصري أنطونيوس الذي ولد بإحدى قرى محافظة بني سويف عام 250 ميلاديا، هو الأب الشرعي لهذا النظام في العالم كله، وجذبت تجربته الكثيرين من الشباب المعاصر له، وشجعتهم على الاقتداء به، والتفرّغ إلى عبادة الله، في أديرة الصحراء المصرية.

كنيسة بأحد الأديرة القبطية
كنيسة بأحد الأديرة القبطية

وربما يكون أحد أسباب انتشار فكرة الرهبنة إلى العالم، هو كتاب “أنبا أنطونيوس” الذي كتبه البابا أثناسيوس الرسولي، وهو البطريرك رقم 20 من بطاركة الكنيسة القبطية، وكان أحد تلاميذ الأنبا أنطونيوس، انتشر هذا الكتاب في الغرب وشجّع كثيرين على زيارة مصر، والتعرّف عن قرب على هذه الحركة الوليدة، ومن هنا انتقلت فكرة الرهبنة المصرية إلى العالم.

الأديرة القبطية

مع أواخر القرن الرابع الميلادي، بدأت حركة الرهبنة في الازدهار وأنشئت عشرات الأديرة في الصحراء المصرية، بعضها ما زال موجودًا حتى الآن، وبعضها اندثر، وبعضها تعرّض للهدم، سنحاول هنا إلقاء الضوء على الأديرة التي ما زالت موجودة وعامرة وتحيا حياة الرهبنة وتشرف عليهم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

دير الأنبا بيشوي من أعلى
دير الأنبا بيشوي من أعلى

دير الأنبا أنطونيوس بالصحراء الشرقية في البحر الأحمر

هو أقدم الأديرة القبطية، وأحد أكبر الأديرة حجما، حيث تبلغ مساحته 18 فدانًا، يقع عند سفح جبل القلزم، بالبحر الأحمر، أنشأه القديس أنطونيوس في القرن الرابع الميلادي، بالقرب من المكان الذي عاش فيه، ومن أشهر نقاط الدير وأقدمها المغارة التي عاش فيها أنطونيوس الكبير، فوق الجبل، وهي (قلاية) ضيقة للغاية في بطن الجبل.

أحد الأديرة القبطية
أحد الأديرة القبطية

وعلى مر تاريخ الدير تم تحديث بعض مبانيه، حيث تم إنشاء عدد من الكنائس داخل الدير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما أنشئت بعض المباني كاستراحة ومبيت للزوار وبعض المكتبات.

دير الأنبا بولا، دير أول السوّاح، بالصحراء الشرقية، في البحر الأحمر

بني هذا الدير في أواخر القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس الميلادي، على اسم القديس بولا، الذي فضّل حياة الوحدة والتقى بالقديس أنطونيوس الكبير، لذا يقترن دائما اسم بولا باسم أنطونيوس، ومن يزور أحد الديرين عادة يزور الآخر لقربهما من بعضهما.

دير الأنبا بولا في صحراء البحر الأحمر
دير الأنبا بولا في صحراء البحر الأحمر

دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون بالبحيرة

أنشئ هذا الدير في أواخر القرن الرابع الميلادي، على يد القديس بيشوي، بمنطقة وادي النطرون غرب الدلتا، وهي المنطقة التي كانت تُعرف قديما ببرية شهيت، وتم هدم هذا الدير وإعادة بنائه أكثر من مرة على مر تاريخه، دير الأنبا بيشوي اهتم بتعميره قداسة البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية رقم 117، واعتاد زيارته والاعتكاف به بشكل أسبوعي في أثناء فترة رئاسته للكنيسة القبطية.

مغارة الأنبا بيشوي بوادي النطرون
مغارة الأنبا بيشوي بوادي النطرون

كما اهتم البابا شنودة بتعميره وزيادة عدد رهبانه، وأسس مقرًا بابويًا به، مع الاهتمام بالمجال الزراعي داخل الدير، وأنشأ مضيفة ومخبزًا وعيادة، وغيرها من الإنشاءات التي ساهمت في تعمير الدير، وأوصى قداسة البابا شنودة بأن يدفن في هذا الدير بعد وفاته، وقد كان، حيث تم تجهيز مكان خاص لوضع جسد البابا شنودة به، والمعروف الآن بمزار البابا شنودة، مع احتواء المزار على كل مقتنيات البابا الراحل، ملابسه وكتبه وصوره وكل ما كان يستخدمه.

ومن الأشياء المميزة أيضا لهذا الدير، أنه تم اختيار بابا الإسكندرية الحالي وبطريرك الكرازة المرقسية رقم 118، البابا تواضروس الثاني، من دير الأنبا بيشوي أيضا، ويهتم الأنبا تواضروس الثاني اهتمامًا خاصًا بهذا الدير، حيث طوّر من المقر البابوي هناك، وأنشأ مركز لوجوس ليساهم في التعليم، كما أنشأ المكتبة البابوية المركزية، والتي يعتبرها البطريرك أحد أهم أعماله منذ مجيئه كرئيس للكنيسة القبطية عام 2012، والهدف من إنشائها هو جمع أنواع التراث القبطي، والعمل على ترميمه، ثم توثيقه وتصنيفه لتسهيل أغراض العرض، ثم إتاحته للقارئ والباحث والدارس، في مكان واحد واحد.

ويحرص الأنبا تواضروس الثاني على إقامة القداسات في هذا الدير، وزيارته بشكل دوري، كذلك يزوره في ثاني أيام عيد الميلاد المجيد من كل عام، أي في الثامن من يناير سنويا، مع عدد من أساقفة الكنيسة، ليحتفل مع الرهبان بعيد ميلاد يسوع المسيح.

المكتبة البابوية في دير الأنبا بيشوي
المكتبة البابوية في دير الأنبا بيشوي

كما يفضّل الكثيرون من المسيحيين زيارة هذا الدير بصفة خاصة، لعدة أسباب، أولا لزيارة مزار المتنيح البابا شنودة الثالث، والذي يعتبروه الكثير من المصريين رمزًا وطنيًا وقائدًا دينيًا مفوهًا، وثانيا اهتمام البابا تواضروس الثاني بتعميره والتواجد به بشكل دوري، أما ثالث فنتيجة قربه جغرافيًا من العاصمة، حيث يبعد وادي النظرون عن القاهرة 100 كيلو متر، وعلى بعد 14 كيلومترًا من الريست هاوس، ما يجعله أقرب الأديرة القبطية لسكان القاهرة الكبرى.

دير السيدة العذراء دير السريان بوادي النطرون بالبحيرة

أنشئ هذا الدير في القرن السادس الميلادي، واسمه الأصلي دير السيدة العذراء، ويقع بالقرب من دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، وهو أصغر أديرة الوادي، أما تسميته بدير السريان فهي تسمية لاحقة، وذلك نتيجة كثرة الرهبان السريان به، حيث استقبلهم الدير لمدة 800 عام، من القرن الثامن وحتى القرن السادس عشر، ثم سكنه الأقباط فقط بداية من القرن السابع عشر.

دير السريان بوادي النطرون
دير السريان بوادي النطرون

واعتاد السائحون الذين يأتون إلى منطقة وادي النطرون د زيارته، لقربه من دير الأنبا بيشوي، ولاحتوائه على بعض المعالم التاريخية والأثرية التي تخص الرهبان السريان وكذلك الأقباط.

وخرج من هذا الدير بعض بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، آخرهم قداسة البابا شنودة الثالث، حيث ترهّب داخل هذا الدير باسم الراهب أنطونيوس السرياني، واعتاد بطريرك الكرازة المرقسية على زيارة هذا الدير في صباح ثاني أيام عيد القيامة المجيد، الذي يوافق عيد شم النسيم، حيث يحتفل بابا الكنيسة بالعيد مع الرهبان، وهي عادة قديمة للبطريرك يداوم عليها حتى الآن قداسة البابا تواضروس الثاني.

دير السريان في وداي النطرون
دير السريان في وداي النطرون

وسنكمل في هذه السلسة التعريف بالأديرة القبطية العامرة، تابعونا.

مصادر

– تاريخ الرهبنة والديرية في مصر وآثارهما الإنسانية على العالم، د. رؤوف حبيب، مكتبة المحبة.
– التربية عند آباء البرية، القس أثناسيوس فهمي جورج.
– الأنبا صموئيل وبديع حبيب، الكنائس والأديرة القديمة بالوجه البحري والقاهرة وسيناء، معهد الدراسات القبطية.
– الآثار القبطية في وادي النيل دراسة في الكنائس القديمة، سومرز كلارك، ترجمة: إبراهيم سلامة إبراهيم، الهيئة العامة للكتاب.
– منير شكري، أديرة وادي النطرون، جمعية مار مينا العجائبي.