تهدف سلسلة مقالات “أشرار الكومكس” لمعرفة أسباب إعجابنا جميعاً بالأشرار، وذلك بمحاولة تحليلها نفسياً لاستكشاف تلك الجوانب المعقدة المركبة في تكوين شخصياتهم الداخلية، و بمجرد أن نذكر الأشرار ذوي التركيب المعقد، سوف تأتي لأذهاننا جميعاً صورة الجوكر بابتسامته العريضة الدامية وعينيه المفزعتين وبشرته الشاحبة العجيبة، ولم لا وقد صار الجوكر رمزاً عالمياً للفوضى والجنون، رمزاً لا نحتاج لتوضيحه أو شرح تأثيره المخيف على جميع من يراه.
وليس عجيباً أن يحظى الجوكر بشهرته بالرغم من بداياته المتواضعة بعام 1940 على صفحات العدد الأول من سلسلة باتمان حيث ظهر كلص وقاتل معتوه يرتدي زياً كالمهرجين ووجه شاحب تتناثر عليه الأصباغ حتي أنه كان مرشحاً ليتم قتله بظهوره الثاني والإكتفاء بذلك، ولكن مع مرور السنوات استطاعت شخصية الجوكر أن تكتسب أعماقاً نفسية شديدة الوعورة انعكست على أفعاله التى صارت مؤذية وخطرة على الجميع بقدر الإمكان كي يصبح أخطر مجرمي مدينة جوثامGotham ..حينها بدأ الجوكر طريقه كي يصبح ماهو عليه الآن، لينال دائماً المركز الأول ضمن قائمة الأشرار عبر جميع التقييمات، بل تمتد سيطرته لقوائم الشخصيات الخيالية عموماً ليمتلك فيها موقعاً متقدماً للغاية ضمن العشرة الأوائل، خاصة بعد ظهوره المتعدد عبر شاشات التليفزيون والسينما من خلال نخبة من الممثلين القديرين الذين حظوا بفرصة ذهبية لتمثيل تلك الشخصية المعقدة أمام الجماهير.
قصة الجوكر
من المثير للانتباه بشأن شخصية الجوكر أنه بالرغم من تاريخه الممتد على صفحات القصص المصورة، فإنه لا يمكن للقراء معرفة أصوله الحقيقية أو حتى اسمه الأصلي، حيث أراد كتاب مغامرات الشخصية دائماً أن يحتفظوا بذلك الجانب خفياً في الظل بعيداً عن متناول الجماهير، ليحتفظ الجوكر بغموضه العجيب ويفتح الأبواب إلى أصول متعددة قد تشرح لنا بداياته بالفعل أو تكتفي بإلقاء مزيد من أستار الغموض عليه.
تم اختيار هيئة المهرج لأننا بطبيعتنا البشرية نصاب بالخوف والقلق من الأشخاص ذوي التعبير الثابت مهما حدث، وخاصة إذا كان التعبير ابتسامة عريضة بينما يطعن بيديه رجلاً بريئاً، ولهذا ظهر مصطلح الكولوروفوبيا Coulorophobia أو الخوف المرضي من المهرجين.
وقد لايعلم البعض أن شخصية الجوكر قد تم رفضها في البداية من الكاتب بيل فينجر Bill Finger بسبب ظهوره كأحد المهرجين بشكل مبتذل لا يليق بأحداث مغامرات باتمان الجادة، ولكن الكاتب بوب كين Bob Kane أعجب بفكرة الشخصية وشجع صناعتها، فوجد بيل فينجر صورة للممثل كونراد فيدت Conrad Veidt واضعاً مكياج لفيلمه الصامت “الرجل الضاحك The Man who laughs” إنتاج عام 1928 عن قصة للكاتب فيكتور هوجو، فاستلهم تلك الهيئة لشخصية الجوكر وقام برفقة الرسام جيري روبنسون Jerry Robinson بابتكاره فعلاً كأحد أشرار مدينة جوثام التي يقوم باتمان بحماية أهلها من الأخطار، ليتمكن الجوكر بأفعاله الشنيعة على مدار السنين أن يزيح بقية أشرار المدينة ويتربع على عرشها مواجهاً البطل باتمان في صراع أبدى لا ينتهي.
بدأت خطورة الجوكر بشكل ملحوظ في عام 1973 بالعدد Batman #251 الذي احتوى قصة “Joker’s five way revenge” التي يصبح فيها الجوكر قاتلاً مجنوناً لا يتورع عن قتل الناس بدون أى سبب أثناء معاركه المستمرة ضد باتمان، حينها بدأت تكتسب الشخصية صفاتها المجنونة المميزة بحق،وبرغم خطورة الجوكر، تنعكس شخصيته الهزلية على أسلحته وأدواته التي تتنوع بين كروت اللعب حادة الأطراف،الزهورالقاذفة للحمض،المسدسات الزائفة، الفطائر السامة والصواعق المخبئة بباطن الكف، ولكن يحتل غاز الضحك السام رأس قائمة أسلحة الجوكر المميتة التي تسبب الوفاة السريعة لمن يستنشقه بعد إصابته بنوبة ضحك هستيرية تحيل وجهه لنسخة مشوهة من وجه الجوكر نفسه.
وجنون الجوكر لا يضاهيه سوى جرائته اللامتناهية، ففي قصة Knightfall الشهيرة، يقوم المجرم المعروف باسم الفزاعة Scarecrow بإطلاق غاز الخوف الخاص به على الجوكر لمعرفة أعمق مخاوفه الداخلية واستخدامها ضده، ليفاجأ بأن الجوكر لم يتأثر به على الإطلاق..الجوكر لا يخاف شيئاً بالفعل!
صراع الجوكر وباتمان
جاء عام 1988 بضربتين قاصمتين يضربهما الجوكر برأس باتمان، أولهما بقصة The Killing Joke المعروفة لدى الجميع حيث يتسبب فيها بكسر العمود الفقري لباربرا جوردن Barbara Gordonالمعروفة بهوية بات جيرل Batgirl لتصاب بشلل نصفي يقعدها عن الحركة كمحاولة لإصابة والدها جيم جوردن Gim Gordon كبير محققي شرطة جوثام بإنهيار نفسي وإفقاد باتمان أحد أهم معاونيه، ثم تأتي قصة A Death in the family كعلامة فارقة بتاريخ الجوكر حيث يتزايد آذاه نحو عائلة باتمان ليرتكب الجرم الأكبر بالتعذيب حتي الموت للمراهق “جيسون تود Jason Todd” المعروف بروبن Robin مساعد باتمان في حربه ضد الجريمة، والتي قامت جماهير القراء بالتصويت لمقتل الشخصية ليساهموا بقدر كبير في تعميق الصراع بين باتمان والجوكر بجعله سبباً رئيسياً في جراح لن تندمل بداخل باتمان.
ومادام وصل بنا السبيل إلى صراع باتمان مع الجوكر، فيجب أن نتفهم قاعدة أساسية تخص ذلك الصراع، وهي أن الجوكر نفسه لا يرغب في إنهاء ذلك الصراع!
ففلسفة الجوكر بخصوص باتمان تتمثل في اعتباره الوجه الآخر لعملته الذي باختفائه يفقد الجوكر قيمة وجوده من الأساس، وعن طريق المواجهات المستمرة فإنه ينال قدراً كبيراً من المتعة –طبقاً لرأيه- معتبراً باتمان هو الخصم الوحيد الجدير بعداوته.
ففي قصة Emperor Joker التي تنتمي لقصص سوبرمان الشهيرة، يستولي الجوكر على قوة مستر ماكزسبتليك Mr. Mxyzptlik السحرية في التلاعب بالواقع، ليجعل الجوكر نفسه زعيماً للعالم بأسره الذي أصبح عالماً كاريكاتورياً تتكرر به أحداث اليوم في دائرة مغلقة كعذاب سيزيف الأسطوري، لنجد أن الجوكر قد ظل محتفظاً بوجود باتمان في ذلك العالم العجيب ليصارعه ويعذبه ويقتله بنهاية كل يوم، ثم يعيد إحيائه ببداية اليوم التالي،وهكذا إلى أن ينجح سوبرمان في الهروب من أسر الجوكر وهزمه عند مواجهته بالمنطق حيث يقلل من مدى سيطرته على العالم بأنه مازال عاجزاً عن محو باتمان من الوجود، فكيف سيسيطرعلى العالم بأسره؟
ولكن بالرغم من ذلك، فإنه عبر بعض المواجهات التي جمعه بباتمان ظهرت دوافعه الحقيقية المتمثلة في إفساد شخصية باتمان بحيث يرغمه على قتله بالنهاية، أو أن يجعل باتمان مشوهاً نفسياً مثله، ولذلك لا يهدأ الجوكر أبداً محاولاً دفع باتمان الغاضب إلي حافة الهاوية التي يقوم عندها بفقدان السيطرة وكسر حواجز مبادئه الشخصية.
لماذا ينال الجوكر إهتمامنا دائماً؟
من الطبيعي أن يعجز الجميع عن حب شخصية قاتلة سافكة للدماء بلا هدف مثل الجوكر، ولكن عندما نتعرف جوانبه الداخلية التي ساهمت في تكوينه، حينها يبدأ الجوكر في جذب إهتمامنا، لنسقط جميعاً في فخ الإعجاب به بالنهاية.
خلال أفلام الجوكر المختلفة ،تناول كل ظهور جانباً من جوانب الشخصية، فتارة نرى المهرج المجرم بفيلم Batman القديم، وتارة أخرى نرى الفوضوي صاحب الفلسفة الاجتماعية بشأن طباع المواطنين بفيلم The Dark Knight، ثم تارة نرى زعيم العصابات المحترف بفيلم Suicide Squad، وبعدها المراهق ذو الطفولة المضطربة بمسلسل Gotham، و الضحية الانطوائية التي يبرحها الجميع ضرباً فيقرر الانتقام منهم جميعاً بفيلم Joker، ليثبت كل ذلك مدى ثراء الشخصية وأعماقها النفسية المعقدة، وتحصل الشخصية على جائزتي أوسكار ينالهما الممثلان هيث ليدجر وخواكين فينكس لأدائهما لشخصية الجوكر بعبقرية فذة.
فتمكنت شخصية الجوكر من استقطاب الجميع نحوه بالتحديد في فيلمي The Dark Knight و Joker 2019، حيث رأينا نسخ الجوكر التي تخاطب وعي ومشاعر الجمهور مباشرة، بإظهاره ضحية للمجتمع أو مريضاً بعلل نفسية تجعلنا قادرين على منحه تعاطفنا الخاص، فنغفر له اضطراباته العقلية ولا منطقيته إذ نواجه بجانبه رأسمالية المجتمع القاسي الذي لا يرحم أحداً فيجعل الجميع تروساً في آلة ضخمة لاهم لها إلا إنتاج الأموال لرجال الأعمال الأثرياء في مقابل ازدياد فقر عامة الشعب،فنرى الجوكر كشخصية متمردة على الواقع الأليم المحيط بنا، فهو يرفض الانصياع للقواعد العامة التي يلتزم الجميع بها، ضارباً بالنظام عرض الحائط ومداعباً بداخلنا دوافع الفوضي المختبأة ورغبتنا العارمة في الانطلاق والحرية، ونعاني معه ضغوطه الداخلية التي يتسبب المجتمع في كبتها بشكل متواصل إلى أن نسعد بالوصول لمرحلة الإنفجار، فكأننا اخرجنا معه غضبنا الداخلي وليس غضب الشخصية فقط، إذن فقد صار الجوكر ضحية للظروف الخارجية، وبالرغم من عدم منطقية تلك الجملة حيث لا يمكن تبرير أفعاله بذلك العذر الواهي، إلا أنه من السهل على الجميع إطلاق الأحكام بدون الوقوع تحت نفس الظروف أولاً.
بالنهاية، يمكننا تلخيص شخصية الجوكر بأنه قاتل مجنون سادي سايكوباثي لا يتورع عن تعذيب وقتل الآخرين بعد التلاعب بهم بلا هوادة، ويستخدم ذكائه العبقري الشيطاني في تنفيذ جرائمه الكبرى بهدف نشر الفوضى بكل مكان تخطوه قدماه، فيصبح سبباً في إخافة المجرمين أنفسهم قبل الأبرياء، حتى أنهم يخافونه أكثر من خوفهم من باتمان، فبالرغم من قسوة باتمان أثناء مواجهتهم إلا أنه يلتزم بقواعد أخلاقية واضحة تتعلق بعدم قتل الأعداء، ولكن بالنسبة للجوكر فلا يأبه بتلك القواعد إطلاقاً، حتى أنه يقوم بقتل أعوانه بسهولة شديدة إن شعر بالرغبة في ذلك مدندناً للحن كوميدي ساخر، فالحياة بالنسبة له لا تستحق كل تلك الجدية التي نواجهها بها.