صالح الراجحي رائد الأعمال والحركة المصرفية
رائد الأعمال السعودي الشيخ صالح الراجحي

يتذكّر الناس الشيخ صالح الراجحي باعتباره رجل الأعمال العصامي، الذي بدأ من الصفر دون أن يرث عن أبويه شيئًا، ودون أن يتلقى دعمًا من أحد، وعمل واجتهد وتطوّر وترقّى حتى صار رجل أعمال محترفٍ، وبنى إمبراطورية استثمارية في ستين سنة، محتفظًا طوال هذه المسيرة بقيمه ومبادئه.

فمن هو صالح الراجحي، وما هي قصة حياته؟ وما أهم المحطات في مسيرته العملية، وما الدروس المستفادة من قصته؟

على هامش الحياة

ولد صالح الراجحي عام 1921م (1340هـ)، في مدينة البكيرية، التي تحمل تاريخًا عريقًا لأسرة الراجحي، منذ جدهم الأكبر راجح الذي عمّر المكان وساهم هو وأولاده من بعده في حمايته. كان الزمن الذي ولد فيه زمن قسوةٍ وخوفٍ وأوبئةٍ وحروب، يسود فيه عُرف الأقوياء وتوحّش البادية.

كانت مهنة الجمّال شائعة في المملكة قبل الانفتاح النفطي
كانت مهنة الجمّال شائعة في المملكة قبل الانفتاح النفطي

كان عبد العزيز والد صالح يعمل جمّالاً، يسير بالإبل المحمّلة بالمؤن، وأو ينقل الناس بين المدن، وكثيرًا ما كانت تصاب أعماله بالركود، وكان في أوقات الركود ينتقل إلى مهنة العمل في البناء.

في طفولة صالح، نزحت أسر كثيرة من القسية إلى الرياض، نظرًا لكثرة الفرص الوظيفية في الدواوين الحكومية وتأسيس الوزارات والمؤسسات الحكومية وإعلان توحيد المملكة تحت حكم الملك عبد العزيز آل سعود. وهكذا غادر صالح الراجحي البكيرية مع والده وأسرته إلى الرياض عام 1933م (1353هـ)، وهم لا يملكون من متاع الدنيا شيئًا، مدفوعًا بالشعوربالقلق المتأصل والرغبة في إيجاد فرص موصّلة إلى حياة كريمة مستقرّة.

في السنوات التالية تنقّل صالح بين معاونة والده في مهنة البناء، وبين تلقي العلم وحفظ القرآن في الكتاتيب، ثم انتقل فيما بعد إلى مسجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف ليحضر دروسًا لأبرز العلماء، وعلى رأسهم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي الديار السعودية حينها، الذي تأثر به صالح كثيرًا.

وفجأة، وبينما هو في الثالثة عشرة من عمره، فوجئ صالح بمسئوليته عن إعالة أسرته، بعد تراكم الديون على كاهل والده عبد العزيز، الذي هرب من دائنيه راجعًا إلى القصيم. عندها اتجه صالح إلى الأسواق ليعمل بالخدمات الشخصية كحمّال يحمل أغراض المتسوقين. وبدأ يركّز على شريحته المستهدفة، فاختار ذوي الهيئات والمكانة، وهكذا بدأ طريقه الخاص في كسب العيش وأصبح عاملاً نشطًا في سوق الرياض.

الأسواق في الرياض قبل الانفتاح النفطي
الأسواق في الرياض قبل الانفتاح النفطي

وبسبب سرعة انتباهه للفرص، واستثماره لها، انتقل صالح من سوقٍ إلى سوقٍ، ومن مهنة الحمّال إلى مهنات خدمية نوعيّة ومبتكرة، ومنها إلى الصرافة وسوق الصرّافين، حيث كانت نقلته النوعيّة.

من السجّادة إلى المؤسسة

في سوق الصرّافين، كان صالح قد انتقل إلى التجارة المصرفية، وصارت له سجادته التي يجلس عليها للتبادل المصرفي وموقعه المعروف، وزاوج بينها وبين تجارة التجزئة في الخردوات، مع التركيز أكثر على الصرافة التي تشبث بها وقرّر التخصّص فيها، وبناء سُمعته الخاصة المتمحورة حول الثقة والجدارة.

مع تطوّر أموره في التجارة، اتجه صالح الراجحي إلى جانب تخصصه في الصرافة، إلى الاستثمار العقاري ولكن بشكل غير ملحوظ؛ فكان يشتري الأراضي ويبني فوقها القصور، ثم يبيعها للأمراء وذوي الوجاهة.

مزرعة الباطن أكبر مزرعة نخيل في العالم ضمن أوقاف الراجحي
مزرعة الباطن أكبر مزرعة نخيل في العالم ضمن أوقاف الراجحي

ومع تطوّر تجارته وعلاقاته أكثر، أخذ يراقب السوق المصرفي وكيفية عمل البنك، ويحشد رأس المال الكافي للنقلة الجديدة، وفور أن وجد المناخ المصرفي مهيّأً له، سارع إلى العمل في الوساطة البنكية مع البنك الأهلي التجاري، مقابل نسبة من الإيداعات التي يحصل عليها، وكعادته كان يستهدف رجال الأعمال الموسرين ليغريهم بالإيداع عنده أو عبره، وساعده هذا مع علاقاته الجيدة بخبراء السوق المصرفي على تطوير عمله إلى افتتاح محله الخاص للصرافة، والتجارة في سبائك الذهب، موسّعًا دائرة تعاملاته إلى جدة ومكة والدمام.

وفي عام 1946م (1366هـ)، وضع صالح الراجحي بذرة عمله المؤسسي في الصرافة، بافتتاح “مؤسسة صالح الراجحي للصرافة”، التي ستصير فيما بعد نواة أحد أكبر المصارف في العالم العربي “مصرف الراجحي”.

في تلك المرحلة كانت مؤسسة الصرافة هذه تستقبل الإيداعات النقدية والعينية ذهبًا أو فضةً، واتجه الراجحي إلى المشاركة في تأسيس الشركات المساهمة كأعمال جانبية، وهي المرحلة التي نقلته من الأسواق المحلية والعربية إلى الأسواق العالمية.

كما ساهم التصدير التجاري للبترول، وزيادة السيولة النقدية زيادةً هائلة، في تدشين العصر الذهبي للصرافة في المملكة، وتعملق الراجحي اقتصاديًا في تلك المرحلة، فأدار مؤسسته المصرفية بمهنية عالية، محافظًا على علاقات شخصية ومهنية احترافية بينه وبين الأطراف التي يتعامل معها.

شهدت تلك المرحلة بزوغ البيوتات التجارية، وكان من بينها “بيت الراجحي” الذي برز على يد صالح الراجحي في مجال الصرافة، وفي مرحلة لاحقة اندمج مع أخيه سليمان ليتفرّغ للاستثمار في العقار والأسهم والزراعة، بينما يواصل أخوه العمل المصرفي عن طريق “مصرف الراجحي” الذي يعدّ واحدًا من أكبر المصارف والبنوك في العالم العربي.

الاستثمار والخروج إلى العالم

بعد أن ثبّت المصرف قدمه في الرياض، وأثبت فرعه الجديد الذي افتتح لاحقًا في جدّة نجاحه، اتجه الراجحي إلى الاستثمار خارج المملكة عبر التوسع في التعاملات المصرفية مع مصادرها الأصلية وليس عبر وسطاء، فاتجه إلى بنوك لبنان، ثم بنوك سوريا، ثم بنوك مصر، ثم في بنوك اليمن والهند وباكستان والفلبين وأمريكا وبريطانيا.

أحد فروع مصرف الراجحي (بنك الراجحي)
أحد فروع مصرف الراجحي (بنك الراجحي)

مع بداية السبعينات الميلادية (التسعينات الهجرية)، كانت مؤسسة صالح الراجحي للصرافة في قمة نشاطها المصرفي، ونضجها المالي والإداري، وبدأت تتعامل بالأنظمة المصرفية الإسلامية كالمرابحة بأنواعها، والمضاربة التمويلية، والإقراض، وغيرها، مما أكسبها شعبية كبيرة في جميع مدن المملكة.

رأى صالح الراجحي أن يتوّج اسمه التجاري بإطلاق أضخم شراكة بينه وبين إخوانه الثلاثة، وقد كان لكل منهم استثماراته الخاصة؛ لتتأسّس “شركة الراجحي للصرافة والتجارة”، برأس مال 600 مليون ريال سعودي. وفي عام 1989م (1409هـ) تحوّلت إلى شركة مساهمة، وتغيّر اسمها إلى “شركة الراجحي المصرفية للاستثمار”، ورفعت رأس مالها إلى 750 مليون دولار، وحققت أرباحا هائلة وزادت أعداد المساهمين في أسهمها، واتبّعت الشركة سياسة التوسع في افتتاح الفروع في جميع مدن المملكة، وفي الأخير تغيّر اسمها ليصبح “مصرف الراجحي: Alrajhe Bank”.

فصلٌ تراجيديّ في حياة صالح الراجحي

في طريقه لتفقد بعض أعماله، تعرّض صالح الراجحي لحادث سيارة عنيف، دخل على إثره غيبوبة لمدة شهر تقريبًا، وخضع بعدها لعلاجات تأهيلية لمدة أربعة شهور أخرى، وخرج من التجربة وقد تأثرت حالته الذهنية والنفسية بصورة سلبية ملحوظة.

رائد الأعمال صالح الراجحي في مراحل مختلفة من حياته
رائد الأعمال صالح الراجحي في مراحل مختلفة من حياته

وفي الوقت الذي لم ينتبه له أحد من عائلته لما طرأ عليه، استغل بعض تجار الأزمات حالته هذه، وعلى مدار أربع سنوات حدثت اختلاسات وتلاعبات ومخالفات مالية مزعجة. بعدها استدعى صالح الراجحي ابنه فعاد فورًا من أمريكا، وأجرى عملية مراجعة ومحاسبة وتطهير، على إثرها تم فصل أكثر من ألف موظف في أسبوع واحد.

بمرور الوقت، تصاعدت الخلافات بين أبناء صالح الراجحي، ولم يكن وضعه الذهني والنفسي يسعفه على تحمّل كل ذلك، فصرفهم من مؤسسته، وبدأت ثقته فيمن حوله تضعف عدا استثناءات قليلة. ومن أجل تدارك الوضع المالي لمؤسساته، قرّر فضّ الشراكة بينه وبين إخوانه في عام 1994م (1414هـ) خاصةً عندما ظهرت قضية تسهيلات مالية تمّ الزج باسمه فيها.

وفي عام 1997م (1417هـ)، صار المناخ الاستثماري مهيّأً لدمج كل مؤسسات صالح الراجحي في شركة واحدة تضم كل أسرته، لتسهل إدارتها، فتمّ ذلك بالفعل.

جوانب النبوغ في شخصية صالح الراجحي

– نشأ صالح جادًا وعمليًا منذ صغره، لا يعرف الكلل والملل.

– كان صالح الراجحي يحب أن ينجز أعماله الخاصة وتجارته في سريّة وخصوصية، فهو يرى أن السريّة هي لبّ العمل التجاري دون تقسيم هذه السرية إلى مستويات.

صورة للمنزل الذي ولد فيه رائد الأعمال السعودي صالح الراجحي
صورة للمنزل الذي ولد فيه رائد الأعمال السعودي صالح الراجحي

– كما كان صالح يملك موهبة إدارة فطرية، وقدرة عالية على استكشاف المجالات التي لا تحظي بالخدمة الكافية، وكان يتقن تطبيق مبدأ اللعب في المساحات المفتوحة.

– وفي بداياته العملية أدرك أن الربط بين المواقف الشخصية والخبرات الذاتية، وخلق الفرص التجارية منها، يولّد صفقات ذكيّة.

– لم يكن يتوقف عند مرحلة واحدة من مراحل العمل أكثر من الوقت اللازم في تقديره الشخصي؛ لذا كانت عادته أن ينتقل من نمطٍ تجاريٍ إلى آخرَ في التوقيت المناسب.

– كان يتعامل بحذر بالغ مع التدفقات النقدية (المصروفات والإيرادات)، ويتجنّب المخاطرة بأمواله وأموال المودعين، ويتبع سياسة “رأس المال جبان”، واستطاع أن يوظّف سمعته الحذِرة هذه في تحويلها إلى منتجات مالية. بينما كان يتوسّع في شراء الذهب بكل أشكاله وكمياته، ويسدّد قيمته فورًا.

– انتهج صالح الراجحي فكرة الاستثمار في الوطن أولاً، سواء في الصرافة أو في بناء المجمعات السكنية أو إقامة المشاريع الزراعية والصناعية.

– حدّد صالح الراجحي أهدافه بشكل واضح؛ أهداف اقتصادية (الصرافة، والعقار، والزراعة، والأسهم)، وأهداف خيرية (عبر الإنفاق بلا حدود على كل مستحق).

– كانت لديه قدرة على استشراف المستقبل والتنبؤ به، واستقراء الأحداث.

– كان متابعًا جيدًا دءوبًا لأسعار صرف العملات، ويتابع النشرات يومًا بيوم، من مصادرها المختلفة، ويجري تحليلاته معتمدًا على ذاكرته. وظلّ حتى أيامه الأخيرة يتابع وكالات يونايتدبرس، وأسوشيتيدبرس، وفرانس برس وغيرها).

وفاة صالح الراجحي

على إثر حادث السيارة الخطير الي تعرّض له صالح الراجحي، بقي معه أثرٌ جسديّ ونفسي وذهنيّ سيء، ظل بعضه يكبر معه حتى عام 1997م (1417هـ)، حيث بدأ يظهر عليه الإرهاق سريعًا بوضوح. فسافر إلى أمريكا لإجراء فحوصات شاملة في 1998م (1418هـ)، ونصحه الأطباء بحمية غذائية وبعض التمارين البسيطة.

غير أنه بعد عودته، واطّلاعه المباشر على مؤسساته وصراعات العمل الدائرة فيها، مما فاقهم عنده الإرهاق الجسدي والإزعاج النفسي، وصار سريع الغضب والممل، وتطور الوضع إلى عدم تركيز، وفي النهاية دخل في غيبوبة حتى توفي في 9 ربيع أول 1432هـ ، الموافق 12 فبراير 2011م. ودفن بعدها بيومين بالرياض في جنازة مشهودة.

لقطة من جنازة رائد الأعمال السعودي الشيخ صالح الراجحي
لقطة من جنازة رائد الأعمال السعودي الشيخ صالح الراجحي

من أقوال صالح الراجحي

– العقار ابنٌ بارّ.

– مالٌ ليس في بلدِك، ليس لكَ ولا لولدك.

– بلدٌ بدون زراعة، ليست بلدًا.

– كل إنسان متعته فيما يشتهي، وأنا أشتهي العمل.

– مَن جدّ دون أن يعرف قوانين المهنة فإنه لن يجد، ومن زرع وهو لا يتقن التوقيت المناسب فإنه لن يحصد.

 

المصدر

– صالح بن عبد العزيز الراجحي؛ إدارة الأعمال بالفطرة: دروس مستفادة في صناعة الخير وبناء النجاح، د. محمد بن صالح بن عبد العزيز الراجحي وعبد الرحمن بن عبد الله الشقير، الرياض، 2013م.