الإثبات الجنائي: من بصمة الأصابع إلى البصمة الجينية
الإثبات الجنائي: من بصمة الأصبع إلى البصمة الجينية

خلال القرنين 18 و19، سعَت السُلطات ومؤسساتها الأمنية إلى إحكام سيطرتها على الواقع الإنساني متمثلاً في الجسَد البشري. ظهرت إمكانيةٌ مؤكّدة بشكل دقيق في الإثبات الجنائي وتحديد هويّات المجرمين عبر بصمات الأصابع وتم إنشاء سجّلات خاصّة لهم. ولاحقًا تطوّر الأمر إلى المدنيين بشكل عامٍ، وتم اعتماد بصمة الأصابع كتقنية محدّدة لهوية كل فرد. ولأن ممارسي الإجرام توسّعوا بدورهم في الإفلات من هذه التقنية، بحثَت الجهات الأمنية المختصة في تقنيات أخرى أكثر دقّة وإحكامًا، فظهرت تقنيات بصمة الأذن والصوت والرائحة وبصمة العين والبصمة المخية والجينية. في هذا المقال نتعرّف بإيجاز على أنواع البصمات المعتمدة في التحليل والإثبات الجنائي وفي تحديد الهوية.

 

بصمة الأصابع

كان أول تطبيق لنظام بصمة الأصابع في الأرجنتين، عام 1891م، بتفعيلٍ من خوان فروسيتيتش رئيس فرع الإحصاء في دائرة الشرطة في مدينة لابلاتا الأرجنتينية. جاء هذا بعد الأبحاث التي أجراها التشيكي يان بيركنج عام 1823م، التي نجح من خلالها في تصنيف وتجميع بصمات الأصابع ومفتاح تباينها التصويري.

بصمة الأصبع
بصمة الأصابع

كان الهدف الأساس لقياس بصمات الأصابع، هو إيجاد بصمة جسدية لا يمكن تزويرها، لمنع الاحتيال أو التباس أشخاص أبرياء بآخرين متهمين نتيجة لتشابه الأسماء مثلاُ. ثم تطوّر الغرض من تحديد هوية ذوي السوابق، إلى التثبّت من الهوية الشخصية بشكل أكيد وسريع، وإن كان هذا الغرض الأخير قد تأخّر تطبيقه كثيرًا بسبب توجّس السلطات الديمقراطية من كون هذا الإجراء يتضمّن تعديًا على الحياة الخاصةّ وحقوق المواطنين.

تتميّز بصمات الأصابع بالثبات مدى الحياة، وعدم قابليتها للتغيير أو التقليد أو التزوير، وعدم تطابقها بين شخصٍ وآخر. بينما يتميّز استخدام بصمات الأصابع في الإثبات الجنائي بأنه لا يحتاج إلى خبرة واختصاص كبير في علم عميق ومعقد أو دراسة أكاديمية عالية.

 

بصمة الأذن

أول من أسّس لبصمة الأذن هو “ألفونس برتييون” مبتكر الطب الشرعي، في كتابه “الصورة الجنائية”، حيث اعتبر أنّ تعاريج الأذن وأخاديدها، هي طريقة كفؤة غير قابلة للخطأ في تحديد الشخصية، على أن تدرج علامة التثبّت من الشخصية في سجلات الأحوال المدنية عند الولادة.

بصمة الأذن
بصمة الأذن

الثابت علميًا أنّ بصمة الأذن اليمنى تختلف عن بصمة الأذن اليسرى لنفس الشخص، كما يختلف الشكل العام لبصمة الأذن وحجمها من شخصٍ لآخر، بل تعتبر الأذن أكثر أعضاء الجسم تعبيرًا عن شخصية الفرد، ومن ثمّ تأتي بصمة الأذن في مرتبة متقدّمة كإحدى الوسائل المؤكدة للتعرّف على الشخصية.

تفيد بصمة الأذن في التحقيق الجنائي بالتعرّف على صاحبها، كما تفيد في تحديد شخصية الأطفال حديثي الولادة ونسبتهم إلى أمهاتهم في حال اختلاطهم.

يمكن رفع بصمة الأذن من على الأبواب الخارجية والداخلية، والنوافذ السفلية، والمواد الموصّلة للصوت. وتجدر الإشارة هنا إلى نظام بصمة الأذن لم يصل إلى مرحلة الاستفادة الكاملة في تطبيقه في التحقيقات الجنائية داخل الوطن العربي.

 

بصمة الشفاه

أكّدت التجارب العلمية والعملية والمعملية – طبيًا وتشريحيًا- أنّ الشفاه لها مميزاتها وخصوصيتها الذاتية، وأنّ بكل شفة خطوطها الخاصّة وتشققاتها وتأثّرها بمستحضرات التجميل.

يتمّ رفع بصمة الشفاه من مسرح الجريمة، وكذلك من بقايا المأكولات والأكواب والأواني والعبوات والسجائر، ومضاهاتها مع المشتبه بهم. ويجري ذلك بطريقتين، إحداهما يدوية باستخدام ورق خاص معالج كيميائيًا، والثانية آليًا عير جهاز مخصّص لهذا الأمر.

 

بصمة الصوت

نظرًا لبعض الحالات التي يكون فيها الصوت ذا علاقة وثيقة مع الجرائم والحوادث، كما في جرائم الابتزاز والتهديد والسب والقذف، أو الجرائم المنظّمة، أو الأصوات الصادرة في مسرح الجريمة.. فقد تمّ الاهتمام بعلاقة الصوت بالجريمة، ويتمحور الأمر في بصمة الصوت.

بصمة الصوت
بصمة الصوت

يرجع اختلاف نبرة الصوت (البصمة الصوتية) من شخص إلى آخر إلى مجموعة عوامل تتضافر معًا (طريقة اهتزاز الأحبال الصوتية، تكوينات القناة الصوتية، وشكل الحنجرة والجيوب الأنفية والأغشية المبطّنة للفم).

وقد استغل البحث الجنائي هذه البصمة في تحقيق شخصية الإنسان بتحديده بذاته دون غيره، وذلك بتحويل رنين صوته إلى ذبذبات مرئية بواسطة أجهزة مختلفة، من بينها على سبيل المثال جهاز تحليل الصوت “الاسبكتروجراف”.

 

بصمة العين

في عام 1934م، بالأكاديمية الأمريكية لطب العيون، قدّم الطبيب راش أطروحته التي أكّد فيها إمكانية التعرّف على هوية الأشخاص من خلال قزحية العين (الحدقة) التي تحوي 260 علامةً، مقارنة ببصمة الإصبع.

بصمة العين
بصمة العين

وبعد اختبارات علمية موسّعة تالية، توصّل العلماء إلى إمكانية الاعتماد على قزحية العين للتعرّف البيولوجي على أصحابها، لأنها أكثر تميّزًا عن بصمات الأصابع، ولا تزيد نسبة الخطأ فيها عن (1 : 10000).

ولاحقًا، انضمّت شبكية العين (في الجزء الخلفي من العين) إلى القزحية، كوسيلة أخرى دقيقة يُعتمَد عليها في تقنية الكشف عن بصمة العين، وصارت تستخدم بشكل أساسٍ في المطارات في كثيرٍ من الدول.

 

بصمة الرائحة

لكل إنسان بصمة رائحة ترتبط بشكلٍ رئيس برائحة العرق، وهناك ثلاث أنواع من الغدد في جسم الإنسان ذات علاقة برائحة العرق:

  • الغدد العرقية المفرزة (Apocrine)، وتفرز كميات قليلة من سائل زيتي عديم الرائحة يأخذ وقتًا حتى يصل إلى سطح الجلد، وتتولى بعض الجراثيم تحرير الحموضة الدهنية الكامنة فيه ببطء.
  • الغدد العرقية المفرزة (Ecrine)، وتفرز سائلاً مائيًا عديم الرائحة بالأساس، لكنه يحمل عادة موادّ طعامية المنشأ كالثوم، أو دوائية مثل الفيتامينات.
  • الغدد الدهنية، وتتميز بأنّ إفرازاتها ذات رائحة خاصّة بشكل طبيعي.
بصمة الرائحة
بصمة الرائحة

في البحث الجنائي، يتمّ التعامل مع بصمة الرائحة بطريقة من اثنتين: الكشف عن طريق الأنف (الإنسان والحيوانات المدرّبة)، أو تحليل الإفرازات الطبيعية. وهناك تقنية الأنف الإلكتروني المبرمج للتمييز بين الأجزاء المختلفة لرائحة معينة، يتم تخزينها باعتبارها بصمة رقمية لتلك الرائحة.

تفيد بصمة الرائحة في الاستدلال على المجرمين، وحصرها دائرة الاشتباه، وإن كان لا يمكن الاعتماد عليها كدليلٍ كافٍ لإصدار حكم بالإدانة أو البراءة، لكنها تظل صالحة للاستئناس بها بجوار أدلة أخرى تدعمها.

 

البصمة الجينية

حتى عام 1984م، لم تكن البصمة الوراثية معروفة. لكنّ عالِم الوراثة بجامعة ليستر اللندنية “آليك جيفريز” نشر بحثًا أوضح فيه تكرارات المادة الوراثية، وواصل أبحاثه حتى توصّل بعدها بعامٍ إلى أنّ هذه التكرارات والتتابعات لا تتكرّر إلى في حالات التوائم المتماثلة فقط، وأن احتمالات تشابه بصمتين وراثيتين يساوي 1 في التريليون، ما يجعله شبه مستحيل.

البصمة الجينية
البصمة الجينية

حاليًا، تعتبر تقنية (DNA) من أهم الوسائل العلمية الشائعة في أغراض الإثبات في القضايا الجنائية، اعتمادًا على تحليل الجينات ومعرفة البصمة الجينية التي تتميز من شخصٍ إلى آخر، وذلك باستخدام عيّنة من أي جزء من أجزاء الجسم البشري أو بقاياه أو مشتقاته كالشعر والدم والأظافر وهكذا.

وتستخدم هذه التقنية في مجال القانون الجنائي في أنواع كثيرة من الجرائم، على رأسها جرائم الاغتصاب أو الاعتداءات الجنسية التي يصعب على الجاني محو آثار الجريمة فيها بشكل كامل. وتتحدّد مهمة هذه التقنية حينئذٍ في التحقّق من شخصية الجاني.

أيضًا تفيد هذه التقنية في تبرئة المشتبهين أو المتورطين في بعض الجرائم ونفي علاقتهم بها، ولا يقتصر الأمر على الجرائم الحالية، بل يمتد إلى الجرائم السابقة المحسومة الصادر فيها حكم نهائي.

كان أول استخدام للبصمة الجينية في إحدى القضايا الجنائية في بريطانيا أواسط الثمانينات، ثم تطوّرت التقنية وانتشرت في دول أخرى، ولأغراض عديدة متنوّعة، مثل حسم حالات التنازع على النسب نفيًا وإثباتًا، وإثبات درجة القرابة في الأسرة، والتعرّف على ضحايا الكوارث.

ما يعيب هذه التقنية: تكلفتها المادية العالية، واحتياجها إلى خبرة فنية عالية ومؤهلة أكاديميًا، وأنها تتطلّب أجهزة ذات ميزة متقدمة وحساسة، وكونها عُرضة لبعض الأخطاء الفنية مثل تلف العينات أو تلوّثها أو التلاعب بها.

الإثبات الجنائي
الإثبات الجنائي

 

مصادر

  • أنظمة تحقيق الشخصية: نشأة وتطوّر، العقيد عبد الله بن محمد اليوسف، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 2007م.
  • الإثبات الجنائي بالوسائل العلمية، كوثر أحمد خالند، مكتب التفسير للنشر والإعلان، أربيل، 2007م.
  • استخدام الهندسة الوراثية في التحقيق الجنائي، د. وجدي عبد الفتاح سواحل، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، 2007م.
  • المراقبة الشاملة: أساس النظام الأمني، أرمان ماتلار، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2013م.