ماذا جرى في مذبحة القلعة
ماذا جرى في مذبحة القلعة

تعدّ مذبحة القلعة (أو مذبحة المماليك) واحدةً من أكبر وأشهر عمليات الاغتيال السياسي الجماعي في التاريخ المصري الحديث. كان محمد علي في حاجة إلى تثبيت أركان حكمه في الدولة المصرية، وكان المماليك هم العائق الأكبر أمامه، بل والخطر المحدق بحياته شخصيًا؛ وكان عليه أن يرتّب لإزاحتهم من طريقه مرّة واحدة وللأبد.

 

الطريق إلى مذبحة القلعة

غادرت الحملة الفرنسية مصر وقد أضعفت المماليك لدرجة انقسامهم إلى فريقين، لجأ أحدهما إلى الاستعانة بالدعم البريطاني لإنفاذ مخططه بالاستقلال بمصر عن السلطنة العثمانية. تولّى محمد علي السلطة في مصر، وواصل مهمته في تدمير النظام السياسي المعتمد على المماليك في مصر.

محمد علي باشا مدبّر مذبحة القلعة
محمد علي باشا مدبّر مذبحة القلعة

وجد محمد علي نفسه واليًا على مصر لكن دون سُلطة، فمن جهةٍ كان لابدّ أن يرجع إلى قاضي القضاء لإنفاذ أي أمر أو قرار، ومن جهةٍ أخرى كان المماليك يصرّون على استعادة السلطة لأنفسهم، وشكّلوا تهديدًا متكررًا على سلطة محمد علي، فطاردهم في الصعيد حتى أخضع الوجه القبلي كله تحت سلطته، واستمال كبار المماليك ونقلهم إلى المعيشة تحت رقابته في القاهرة.

لكن المماليك كانوا لا يزالون يرون في قرارة أنفسهم أنهم الأكثر أحقية بحكم مصر، وبالمقابل كان محمد علي ملمًا بموقف المماليك منه ورغبتهم في التخلّص منه في أقرب فرصة سانحة؛ لذا كان محمد علي شديد الاحتياط والحذر في تنقلاته ومخططاته لتفادي الإيقاع به.

لكن ظهر أمامه تحدٍ جديد وخطير، إذ طلب منه السلطان العثماني أن يجهّز جيشًا يخرج من مصر لمواجهة الحركة الوهابية في نجد والحجاز. إذا غادر الجيش ستضعف القوة الحربية لمحمد علي وربّما ينفرد به المماليك وينتزعون من السلطة؛ لذا بادر إلى التفكير في أن يتغدّى بهم قبل أن يفكّروا في التعشّي به، وكان عليه أن يرتّب لتوجيه ضربة قاضية ضد المماليك تزيحهم من طريقه مرّةً واحدة وللأبد، كي يكون في حالة اطمئنان عندما يغادر الجيش.

 

متى حدثت مذبحة القلعة؟

حدثت مذبحة القلعة على مدار يوم 1 مارس من عام 1811م، الموافق 5 صفر من عام 1226هـ.

 

أين وقعت مذبحة القلعة؟

وقعت أحداث مذبحة القلعة في قلعة صلاح الدين، المشتهرة تاريخيًا باسم قلعة الجبل.

 

كيف جرت خطة مذبحة القلعة؟

كان لاظوغلي باشا – الرفيق القديم لمحمد علي- هو صاحب فكرة المذبحة، وكان أول مَن نصح محمد علي بضرورة القضاء على المماليك، وهكذا تم الترتيب لمخططٍ لم يطّلع عليه سوى ثلاثة آخرون من خواصّ المقرّبين لمحمد علي (صالح قوش، وحسن باشا، وإبراهيم أغا).

مذبحة القلعة
مذبحة القلعة

في أوائل عام 1811م، أرسل السلطان العثماني إلى محمد علي يطلب منه تجهيز جيش يتوجه من مصر إلى الحجاز للقضاء على الحركة الوهابية في نجد. استجاب محمد علي لطلب السلطان العثماني، وجهّز جيشًا ونصّب على قيادة الجيش ابنه أحمد طوسون باشا. كان حفل يوم التنصيب هو الاختيار الأمثل لتنفيذ الخطّة، فهذا النوع من الاحتفالات يكون هائلاً ومشهودًا، ولن يشك المماليك في شيء. وهكذا جرى الأمر.

أرسل محمد دعواته إلى رجال الدولة وكبار الموظفين المدنيين والعسكريين والأعيان، وكذلك إلى الأمراء والبكوات المماليك وأتباعهم، ليشهدوا الاحتفال بتنصيب طوسون على قيادة الجيش.

استجاب عدد كبير من المماليك لهذه الدعوة، واعتبروها بادرة طيبة من الوالي وتحمّسوا للأمر، فحضروا مبكرًا في أبهى صورةٍ ممكنة، واستقبلهم محمد علي بحفاوة وضيّفهم وتبادل معهم الأحاديث الباسمة، وطلب منهم أن يشاركوا في موكب ابنه طوسون ليكونوا في طليعة مودّعيه فإن هذا سيمنحه مزيدًا من التكريم، فاستجاب المماليك لمحمد علي وشكروه في احتفاء واضح، وانضموا إلى الموكب في صفوفٍ تالية على المقدمة التي عليها طوسون.

اتّخذ الموكب مساره في الممرات داخل القلعة، باتجاه الخارج حيث تنتظر الجماهير العريضة على جنبات الطريق لتحيّة الموكب الذي ينتظر خروجه، لكنّ الموكب خرج بالمقدّمة التي عليها طوسون فقط، دون المماليك.

في اللحظة التي عبر فيها آخر جنود المقدّمة، تم إغلاق الباب من خلفهم، ليفاجأ المماليك بأنفسِهم محتجزين خلف الباب في الممرّ الصخري الضيّق الزلِق المحاط بالصخور من الجانبين، وانهمر الرصاص على رؤوسهم يحصد أرواحهم وأرواح أتباعهم.

قرابة 470 من المماليك وأتباعهم تحت وابل الرصاص، ومَن نجا من الرصاص، تم اقتياده وإعدامه ذبحًا، وامتلأت ممرات القلعة بجثث المماليك، واستمرت المذبحة داخل القلعة منذ الظهيرة وحتى منتصف الليل.

 

الناجون من مذبحة القلعة

لوحات توضح الناجي الوحيد من مذبحة القلعة أمين بك
لوحات توضح الناجي الوحيد من مذبحة القلعة أمين بك

الناجي الوحيد من بين كل مَن حضروا ذلك اليوم من المماليك، كان “أمين بك”. وقد أسعفه الحظّ حين كان متأخرًا في ذيل الحشد، وبمجرّد أن رأى انهمار الرصاص على رؤوس وأجساد رفاقه من المماليك، سلَك طريقه إلى الهرب، فصعد على فرسه في اتجاه بقعة مطلّةٍ على الطريق، وبمجرّد أن صار بجوار سور القلعة، حاصره بعض جنود محمد علي، فلم يجد أمين بك أمامه سوى أن يقفز بفرسه من على سور القلعة من ارتفاعٍ شاهق يتجاوز 18 مترًا، ونجا من الموت بأعجوبة، وانطلق في رحلة هربٍ عبر الصحراء، حتى خرج من مصر ووصل إلى جنوب الشام.

تشير بعض المصادر التاريخية، إلى ناجٍ آخر هو “علي بك السلانكلي”، إلا أن هذا الناجي الثاني تخلّف عن حضور الحفل نظرًا لانشغاله في مهامه بإحدى الإقطاعيات. لكن الأرجح أنّه لم يكن وحده في هذا، إذ تخلّف الكثير من المماليك عن حضور الحفل، وقد تتبعّتهم قوّات محمد علي في اليوم الثاني للمذبحة، وقبضوا على مَن لم يهرب منهم، وأحضروهم إلى القلعة، وتم إعدامهم.

 

ما بعد مذبحة القلعة

فور انطلاق شرارة المذبحة، انتفض محمد علي واقفًا مكانه في توتّر، فقد بدأت الخطة الدموية في التنفيذ. ظلّ محمد علي في مكانه صامتًا لساعاتٍ حتى جاءه الخبر بالقضاء على كافة المماليك، فطلب كوبَ ماء وتجرّعه كاملاً مرةً واحدة.

لوحة توضح محمد علي أثناء أحداث مذبحة القلعة
لوحة توضح محمد علي أثناء أحداث مذبحة القلعة

خارج القلعة، لم يكن أحدٌ من الجماهير المحتشدة يتوقّع ما جرى، كان الجميع مبتهجين، وفجأةً – فور سماع أصوات الرصاص يدوي من داخل القلعة- ساد الذعر وتفرّقت الجموع وأغلقت الحوانيت والأسواق، واختبأ الجميع داخل بيوتهم.

هنا بدأت رحلة جديدة من المطاردة، شنّها جنود محمد علي ضدّ المماليك وأتباعهم في جميع أنحاء القاهرة، فاقتحموا بيوتهم وأعدموا كلّ من وقع تحت أيديهم منهم، واستمرّت هذه الأحداث والسلب والنهب 3 أيامٍ، أُعدِم خلالها قرابة ألف من المماليك وعائلاتهم وأتباعهم، ولم تتوقف إلا بعد نزول محمد علي بنفسه من القلعة إلى شوارع القاهرة ليأمر جنوده بالتوقف واستعادة الانضباط، بل وأصدرأوامره بإعدام كل مَن يثبت تماديه في السلب والنهب بعد إصداره هذا الأمر.

وبلغ مجموع القتلى من أمراء المماليك وجنودهم – دون العائلات والخدم- قرابة 1000 قتيل في أنحاء القاهرة والمديريات الأخرى، منهم 470 قتلوا في المذبحة داخل القلعة.

 

أين ذهب المماليك؟

الذين بقوا أحياء من المماليك لأنهم لم يحضروا الحفل الذي تمت فيه المذبحة، طاردهم جنود محمد علي وألقوا القبض على كثير منهم في بيوتهم داخل القاهرة، واقتادوهم إلى القلعة حيث تم إعدامهم.

رؤوس الأمراء المماليك بعد المذبحة
رؤوس الأمراء المماليك بعد المذبحة

والذين لم يتمكّن الجنود من القبض عليهم، كانوا قد هربوا من القاهرة متخفّين باتجاه الصعيد ليلحقوا باثنين من كبار المماليك (إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن)، بينما اتجه عدد آخر من المماليك نحو سوريا.

وقد أصدر محمد علي أوامره إلى مسئولي المديريات، باعتقال كلّ مَن يعثروا عليه من المماليك وإعدامه.

 

كتب عن مذبحة القلعة

  • محمد علي: رؤية لحادثة القلعة، د. حسين كفافي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992م.
  • عصر محمد علي، عبد الرحمن الرافعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000م.