في حياة الشخصيات المؤثّرة في التاريخ والآداب والسياسة، توجد تفاصيل مهمة ومحورية يندر أن تتوافر خارج مصادر وكتابات بعينها، وخصوصًا المذكّرات الشخصية واليوميات والحوارات. ودائمًا تحتوي هذه المصادر على خلاصات توفّر على المتخصّص والمتلقّي العادي، قراءةَ تلالٍ من الكتب عن الشخصية ومواقفها وعصرها وتأثيرها فيه. ومن هذه النوعية كتاب “مذكّرات آنا غريغوريفنا” زوجة الأديب الراحل العظيم “فيودور ديستويفسكي”، التي تكشف تفاصيل لا يمكن العثور على بعضها إلا عندها هي وحدها دون سواها.
دستويفسكي الإنسان
تحتوي مذكرات آنا غريغوريفنا، على تفاصيل مكثّفة للغاية ومُدهِشة، تقرّبك من دستويفسكي الإنسان والفنان على حدٍ سواء، وتخفّف كثيرًا من هالَة القداسة المفروضة حوله، والتي تحولُ أحيانًا دون الاستفادة من تجربته الحياتية والإبداعية كما ينبغي.
من هذه التفاصيل، أنّ دستويفسكي كان مصاب بالصرع والاكتئاب، وكانت نوبات الصرع تنتابه مرة على الأقل أسبوعيًا، قبل أن يتزوّج من “آنا”، عدا أنه بعد أن أحبّها وتزوّجها، قلّت نوبات الصّرع تمامًا، ولو تأته إلا مرات قليلة جدًا خلال الـ14 سنة اللي تزوجها فيهم قبل أن يرحل.
تحكي آنا، زوجة دستويفسكي، أنها ظلّت حريصة طوال حياته على مشاعر زوجها واحتياجاته، لدرجة أنها منعت عن نفسها الماكياج خارج البيت، مراعاةً منها لغيرته الشديدة التي ظلت تلازمه حتى آخر حياته. ومنذ اليوم الأول الذي تعرّف عليها فيه، ظلّت هي أول قارئة وأول ناقدة لأي كتابةٍ يكتبها.
وعلى الصعيد الوطني، كان دستويفسكي متبنّيًا للقومية الروسية السلافية والأرثوذكسية الأصيلة، وبعد وفاة زوجته الأولى كان يفكّر جديًا في السفر إلى القدس العثمانية للإقامة بين الرهبان الأرثوذكس هناك، وكان مؤيّدًا حسّاسًا للحرب الروسيّة على الإمبراطورية العثمانية، انطلاقًا من “الرسالة التاريخية للأمة الروسية المؤمنة، والشعوب السلافية، في توحيد البشرية بناءً على المحبة والأخوة المسيحية”.
أمضى دستويفسكي آخر 20 سنة من حياته مطاردًا بالديون، وكان مهدّدًا بالسّجن عدّة مرات على أيدي الناشرين، ولم يتمكن من موازنة أموره إلا بعد أن فتح دار نشر خاصة به قبل وفاته بسنة واحدة. وكانت هذه هي السنة الوحيدة التي عاشها في أمان ماليّ حقيقي كما تذكر آنا.
وقد حرصت آنا في مذكراتها على التأكيد على أن دستويفسكي كان أول كاتب روسي يتجرّأ على نشر كتبه بنفسه بعيدًا عن دور النشر، وكانت هذه الخطوة نقلة فارقة في حياته، مكّنته من سداد ديونه، والخروج تدريجيًا من تحت سطوة الناشرين المتعجرفين، خصوصًا بعد ما طبع ونشر “الأخوة كرمازوف” في آخر حياته.
في المهرجان السنوي لذكرى الشاعر العظيم بوشكين، اعتذر تولستوي عن الحضور، واعترف لمقرّبينه أنه اعتذر لأن دستويفسكي سيحضر، وسيخطف الأضواء من الجميع. وتحقّق توقّع تولستوي تمامًا، ووحّد دستويفسكي أقطاب الشعب من خلال خطبته الشهيرة في ذاك المهرجان.
في وقتٍ متأخرٍ جدًا ليلةَ وفاة دستويفسكي، كان مريضًا وطلب من زوجته الإنجيل، وفتح لها إحدى الصفحات عشوائيًا، فقرأت له “وإذا السماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وأتيا عليه”. فكرّر ديستويفسكي وراءها “وإذا السماوات قد انفتحت له” وأضاف: “ألم أقل لكِ يا حبيبتي إنني سأموت اليوم؟”. ومات في الثامنة والنصف من مساء اليوم ذاته.
دستويفسكي الفنان
تطلعنا تفاصيل مذكرات آنا على الجانب الفنّي الإبداعي من تكوين زوجها فيودور دستويفسكي، وكيف تشكّل هذا الجانب، وما الذي أثّر فيه، وما كان يحلم دستويفسكي بإنجازه ولم يسعفه القدر لتحقيقه.
فعلى سبيل المثال، نكتشف أن تفاصيل كتير من تجارب دستويفسكي ومشاهداته الحياتية، كانت هي العمود الحقيقي لكتاباته الروائية، ليس ثمّة تفصيلة عميقة ومتفرّدة إلا كان له تجربة معها إما بالمعايشة أو بالمشاهدة أو حكاها أحدهم له. اللوحات الفنية، شواهد القبور، الشخصيات النماذجية، تجارب الحمل والولادة والمرض والدفن والإعدام، وكل ما شابه.
كما نرى أيضًا أنّ روايته “المقامر” أملاها شفاهيًا في 26 يوم فقط، على متخصصة الكتابة السريعة “آنا غريعوريفنا” التي هتصير زوجته بعدها بعدّة شهور. كان دستويفسكي يسابق الزمن كي يسلّم الرواية للناشر المتربّص، الذي نصب عليه وكان على وشك أن يسجنه.
من العوامل التي تذكرها آنا، وأثّرت كثيرًا في التكوين الفني الإبداعي لزوجا دستويفسكي، أنه كان يجيد الفرنسية بطلاقة، وترجم عددًا من الروايات إلى الروسية، مثل “أوجيلي غرانده” لبلزاك، و”الأخير من سلالة الديني” لجورج صاند، وقد تأثرّ دستويفسكي جدًا بالفرنسي بلزاك، في “الجريمة والعقاب” تأثّر بـ”الأب غوريو”، وفي “الأخوة كرامازوف” تأثر بـ”الحانة الحمراء”. كما تأثر أيضًا بـ”كانديد” لفولتير في “الأخوة كرامازوف”، وتأثر بالفرنسي ديدرو في “الأبله” و”مذكرات من تحت الأرض”.
وينضمّ إلى أسماء المبدعين الذين أثّروا في دستويفسكي؛ ألكسندر بوشكين، وألكسندر هرتسين، وبيلنسكي، والمستشرق غريغوريف، والفيلسوف نيكولاي دانيليفسكي.
وفيما يخصّ المشاريع الروائية الكبرى لدستويفسكي، كانت رواية “الأخوة كرامازوف” في الأصل، مشروعًا روائيًا ضخمًا اسمه “الخاطئ”، ولم يتمكّن ديستويفسكي من إتمامه، فحوّله إلى هذه الرواية. كما كانت لدى ديستويفسكي أربعة مشاريع روائية كبرى ينتوي كتابتها، لكنه ماتَ قبل أن يبدأ في أيٍ منها.
وبالنسبة لروايته المعروفة “الشياطين”، فقد أنهكته جدًا، وأعاد كتابتها أكتر من مرّة على مدار 3 سنوات، وأتلف أول 15 ملزمة منها، وأعاد صياغة الجزء الثالث منها بالكامل، وقرّر التوقف فترة عن الكتابة بسبب هذا المجهود، ولم يتوقف إنهاك هذه الرواية عند هذا الحد، بل إنها خلقت له أعداءً من كافة التوجهات السياسية بعد نشرها.
وعلى مستوى علاقة بالأديب الروسي العظيم “ليو تولستوي”، كان دستويفسكي يحترم تولستوي جدًا، وكان تولستوي شابًا في منتصف العُمر، واعتبر دستويفسكي أن روايته “آنا كارنينا” من أعظم إنتاج الأدب الروسي الذي يعطي لروسيا الحقّ في أن تناطح أوروبا أدبيًا. ورغم أن كليهما – تولستوي ودستويفسكي- كان يتحيّن الفرصة الملائمة لمقابلة الآخر، إلا أنه لم يقدّر لهما ذلك. وفيما بعد ساعدت زوجتُه “آنا غريغوري”، زوجةَ تولستوي “الكونتيسة صوفيا أندرييفنا” بخبرتها، في نشر أعمال تولستوي.
أخيرًا، تنبّهنا هذه المذكرات إلى أنه من المهمّ جدًا لأي أنثى (زوجة، أم، ابنة، صديقة) في حياة رجل مبدِع يحيا بهويّته الإبداعية كـ(فنان أو رسّام أو كاتب أو موسيقيّ أو مصمّم أو أيًا كان)، أن تطالع تجارب زوجات المبدعين؛ كي تتمكّن من فهم ما ينبغي عمله، وتوفّر على نفسها عناءً كبيرًا، وكي لا تسبب في تأخّر أو قتل إبداع الرجل المبدع الذي في حياتها.