علي عزت بيجوفيتش رجل المغامرات الضرورية .. من هو وما هي قصة حياته؟

البداية كانت من الصرب، عندما ثاروا على القوات العثمانية في بلجراد واستولوا على المدينة عام 1886م، وطردوا المسلمين منها. عندها اضطر جدّ “على عزت” الضابط في الجيش العثماني، إلى الخروج برفقة مجموعات اللاجئين إلى موقع مؤقت للإيواء شمال شرق البوسنة، حوّلوه إلى بلدةٍ عامرةٍ، صار اسمها “شاماتس”، وصار جدّ “على عزت” عمدة البلدة.

كانت أسرة بيجوفيتش شديدة الثراء، وامتلك عزت تجارةً واسعة في بلدة “شاماتس”، لكن بسبب إصابته في الحرب العالمية الأولى حين كان محاربًا في الجبهة الإيطالية، صارَ شبه مشلول بشكل جعله حبيس الفراش فترات طويلة، وتبدّدت التجارة.

نشأة علي عزت بيجوفيتش

ولد علي عزت بيجوفيتش (أو علي عزت بيغوفيتش) في 8 أغسطس 1925م، ونشأ طفلا لطيفا ومحبوبا، وكان لأبيه تأثير كبير في تكوينه الفكريّ بحكم مكانته في مجتمع البلدة، إلى جانب تأثيرات ظروف مرضه، لكن حبّ علي الأكبر اختصَّ به أمَّه ، فقد كانت رقيقةً عطوفًا وعلى جانب عظيم من التدين والتقى، أثرت بقوة في الزامه الديني والأخلاقي، وعندما أرسلته أمه إلى الكتّاب كان عمره خمس سنوات، وتعلم قراءة القرآن في نصف عام فقط. وبعدها التحق بالمدرسة الابتدائية.

انتقلت الأسرة إلى سراييفو لإلحاق أبنائها وبناتها بالمدارس، وكان علي عزت تلميذًا متوسط الإنجاز في المدرسة الابتدائية حتى أنه كان يحصل على درجات ضعيفة في بعض المواد.

ينتمي علي عزت إلى أقلية البوشناق، ويتذكّر طفولته الأولى مع جيرانه الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك، بانطباعاتٍ تؤكّد تعايشهم في سلامٍ ومودّة.

التعاطي مع الشيوعية

في مراهقته، اهتزّ إيمانه بأمور كثيرة، وانغمس في قراءة كتب ومنشورات الشيوعية والإلحاد، في مرحلةٍ كانت تمتلئ فيها يوغسلافيا بالنشطاء الشيوعيين والدعاية الشيوعية بقوة، وأدرك على عزت أنهم لا يفهمون الدميقراطية ولا يبالون بها، وتوصّل إلى أنّ الشيوعية لا تعدو أن تكون شمولية حمراء في مواجهة شمولية سوداء، فأقلع عنها في غضون عام أو عامين.

كانت صَربنة يوغسلافيا، والأعراق التي تتواجد فيها، هدفًا تقليديًا راسخًا في يوغسلافيا الملكية. ولذا عندما التحق علي عزت بالثانوية، انصرف عن متابعة المناهج الصربية الصارمة، إلى قراءة الفلسفة، واستطاع استيعاب الأعمال الفلسفية الأساسية في الفلسفة الأوربية قبل أن يتمّ العشرين. كل هذا في الوقت الذي حافظ فيه على مساره الدراسيّ حتى تخرّج لاحقًا في 1943.

النشاط الفكري في الجامعة

في الجامعة، في زغرب وبلجراد، بدأ على عزت يتجه إلى تبنّي التصوّر الإسلامي، الذي أيقن أنه يتلاءم مع مع أفكاره الخاصة، واتفق مع مع زملائه على إنشاء جمعية لهم باسم (جمعية الشبان المسلمين) تتبنّى أفكار الإسلام ومعارضة الفاشية والشيوعية والإلحاد، ونظرًا لسقوط يوغسلافيا تحت الغزو الألماني في أبريل 1941م، لم تُسجّل الجمعية بشكل رسميّ.

غير أن أفكار ومبادئ الجمعية انتشرت في أوساط طلاب الثانوية والجامعات، وصار لها مؤيدون في كل أنحاء البوسنة والهرسك، وظلّ نشاط الجميعة مستمرًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

بانتهاء الحرب، تحوّلت يوغسلافيا من الملكية إلى الشيوعية، واستولى الشيوعيون على سراييفو في أبريل 1945م لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع والمعاناة تجاوز 40 عامًا، وحاول الشيوعيون استمالة شباب الجمعية مع تهبيط أنشطتهم الفكرية والإعلامية، لكن ذلك لم يتمّ، ومن حينها بدأت مرحلة السجون.

تجربة السجن الأولى

ألقى القبض على بيجوفيتش ومجموعة من زملائه، في مارس 1946م، وعلى إثر محاكمة صورية، تم الحكم عليهم بالسجن 3 سنوات مع الأشغال الشاقة. ومع ذا، استمرت الجمعية في نشاطها الفكري، واتسع انتشارها في المجتمع البوشناقي، فألقت السلطات القبض على مجموعات أخرى في 1947م، وفي 1948م.

وفي عام 1949م، شنّت السلطات الشيويعة عملية كبرى للقضاء على الجمعية تمامًا، ليثبتوا للرئيس السوفييت “ستالين” أنهم غير متراخين مع الجهات المضادة للثورة الشيوعية، ووسّعوا دائرة الاعتقالات ومداهمات المنازل إلى أقصى مدىً، وتمَّ تدمير الجمعية تدميرًا كاملاً، وأعدِم قائد الجمعية “خالد كايتاز” رميا بالرصاص، وأودع قادة الجمعية في أنحاء البلاد بالسجون، وتبعثر الباقون أو لجأوا إلى الاختفاء.

في مارس من العام ذاته، كان علي عزت قد أنهى مدّته وخرج من السجن بكامل صحته، وتزوّج من حبيبته “خالدة” زميلة أخته الصغرى. إلا أنه صُدِم من تردّي الأوضاع الاقتصادية إلى هذا الحدّ خلال 3 سنوات فقط، هي عمر الحكم الشيوعي. وظلّ علي عزت يمارس نشاطه وسط هذه الأوضاع التي استمرت دون أي تحّسن يُذكَر حتى عام 1975م، حيث بدأت الأوضاع تتحسّن نسبيًا عبر إصلاحات دستورية، أعطت كوسوفو كيانًا ساسيًّا مكافئًا لباقي الجمهوريات اليوغسلافية الأخرى، وسمحت ببناء مسجد في بلجراد للمسلمين، وإنشاء معهد دراسات إسلامية في سراييفو.

بوفاة تيتو في 1980م تاركًا دولةً على وشك التآكل، تغوّلت القومية الصربية التي بدأت تهاجم عصر تيتو نفسه، وعلاقاته الدولية، وإصلاحاته الدستورية قبل خمس سنوات، وتصاعد هجومهم العدائي على البوشناق المسلمين.

تجربة السجن الثانية

في عام 1983م، تمت محاكمة على عزت بيجوفيتش مع مجموعة من زملائه المفكرين والمثقفين البوشناق المسلمين، بتهمة القيام بثورة مضادة والتآمر ضد نظام الحكم، دون وجود أي إشارة إلى أسلحة أو مليشيات مدربة أو مظاهرات أو منشورات أو أجندة اجتماعات سرِّيَّة. وحكمت المحكمة عليهم بأحكام متنوّعة، حصل منها بيجوفيتش على حكم بالسجن 14 عامًا مع الأشغال الشاقة.

وعندما انتقلت القضية للاستئناف، تم تخفيف الحكم على بيجوفيتش إلى 12 عامًا، بناءً على التماسات قدّمها بعض مثقّفي بلجراد، ومثقفين آخرين من خارج يوغسلافيا. وفي السجن، بدأ بيجوفيتش التكيّف مع مناخ العزلة والكآبة، وشرع يسجّل ملاحظاته وتأملاته عن الحياة والمصير والدين والسياسة، والكتب ومؤلفيها، وعن كل ماخطر بباله طوال 2075 يومًا قضاها في السجن.

الخروج إلى الحرية

مع إلغاء دستور 1975م، وإلغاء كل مظاهر الحكم الذاتي التي حصلت عليه كوسوفو، اندلعت مظاهرات واحتجاجات في كوسوفو، ونزلت الدبابات اليوغسلافية إلى الشوارع للتعامل مع الوضع. تزامنت هذه الأحداث مع انهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، ومن ورائه الأنظمة الشيوعية لدول شرق أوروبا.

شكّلت هذه الأحداث مناخًا سياسيًا ساهم في سرعة الإفراج عن على عزت بيجوفيتش، الذي خرج متجهزًا للتعامل وفق منظور جديد كزعيمٍ يثق فيه شعبه وياتمنه على مستقبله وهويته، وليس مجرد مفكّر ومناضل كما كان فيما سبق. وسرعان ما تمّ اختياره زعيمًا للحزب الجديد “حزب العمل الديمقراطي”، ثم انتخباه رئيسًا لجمهورية البوسنة والهرسك في عام 1990م.

الحرب من أجل المصير

في 29 فبراير 1992م، أجريَ استفتاءٌ للتصويت على استقلال البوسنة عن يوغسلافيا، سيرًا على خطى سلوفينيا وكرواتيا، وكانت النتيجة أن صوّت أكثر من 99% بنعم، مما ترتّب عليه تقرير مصير البوسنة والهرسك رسميًا وقانونيًا، أما المصير الحقيقي فسيتقرّر على أرض المعركة.

في أول أبريل، بدأت الحرب الصربية على البوسنة، عندما هاجمت وحدات شبه عسكرية صربية مدينة بوسنية، ثم انضم للحرب المتطوعون وقوات الاحتياط من صربيا والجبل الأسود. كانت مواجهة منعدمة التكافؤ بين جيش أوروبي عتيد، وبين شعبٍ أعزل لم يشكّل بعدُ قوته العسكرية، وعليه أن يواجه كوارث التطهير العرقي والإبادة الجماعية والاغتصاب والتشريد والتجويع والحصار.

ومع تطوّرات الأحداث، حاصر الصرب العاصمة سراييفو، وقطعوا عنها كل الإمدادات؛ فقاد بيجوفيتش عملية حفر نفق طويل يمتد خارج سراييفو؛ الأمر الذي ساهم في إدخال 100 ألف طن من الأسلحة والذخيرة والطعام والدواء إلى سراييفو المحاصرة.

وبعد حربٍ امتدّت إلى 43 شهرًا، على جبهة طولها 1200 كيلومترًا، نُفّذ فيها أكثر من 3 آلاف عملية دفاعية وهجومية، تم توقيع اتفاق دايتون في 15 ديسمبر 1995م، على إثر جولات ضارية من المفاوضات التي قادها بيجوفيتش. أنهى هذا الاتفاق الحرب، لكنه لم يوفر الآليات اللازمة لاستمرار دولة البوسنة والهرسك قائمة.

أهم مؤلفات بيجوفيتش

كان بيجوفيتش بالأساس مثقفًا مفكّرًا، قبل أن يكون مناضلاً ثم سياسيًا قائدًا؛ لذا كان له نصيبه من الإنتاج الفكري عبر عددٍ من المؤلفات، نذكر منها:

1- الإسلام بين الشرق والغرب.

2- الإعلان الإسلامي.

3- هروبي إلى الحرية: أوراق السجن (1983 -1988)

4- سيرة ذاتية وأسئلة لا مفرّ منها.

نهاية مشرّفة

في أغسطس 2000م، قرّر على عزت بيجوفيتش أن يعتزل منصبه السياسي كرئيس لجمهورية البوسنة والهرسك، بعد إمضائه فترتين رئاسيتين جرى انتخابه فيهما بأغلبية ساحقة، وبالفعل أنهى فترته في أكتوبر 2000م، فيما عُدّ ظاهرةً سياسيةً فريدة.

وفي سبتمبر 2003م، دخل بيجوفيتش المستشفى على إثر سقوطه على سلم منزله وإصابته في أضلاع صدره، وظلّ محتجرًا للعلاج، وتدهورت حالته الصحية، حتى توفّي في 19 أكتوبر 2003م، قانعًا بأنه بذل ما في وسعه وأنه قد آن الأوان لكي يحصل على الراحة التي ظلّ ينتظرها بعد أن أمضى خبراتٍ حياتية تكفي ثلاث حيوات مثل حياته على الأقل، رغم أنه كان “لا يتورّع عن شيءٍ من المغامرة إذا لم يكن منها بدّ” كما كان يقول.

المصادر

– سيرة ذاتية وأسئلة لا مفر منها، علي عزت بيجوفيتش، ترجمة د. عبد الله الشناق ود. رامي جرادات، 2004م.