المارشال الألماني “إروين روميل”، المشهور بألقاب من بينها: روميل الثعلب، ثعلب الصحراء، قائد حرب الصحراء، كما تذكره بعض المصادر بصفة ذئب الصحراء. وصفه الإنجليز بأنه أقدَر من أنجبتهم الحرب العالمية من القادة، وقال عنه الجنرال الألماني بايرلين “قد لا يكون روميل استراتيجيًا عظيمًا؛ لكنه دون ريب أفضل قائد ألماني في حرب الصحراء”.
رغم ما كان يكتنف حياة روميل من الغموض طوال سنوات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ انكشاف الوثائق بمرور الوقت، ونشر مذكرات روميل الشخصية عبر ابنه، ساعد في كشف الكثير من هذا الغموض.
فضائل روميل الشخصية والعسكرية
عُرف روميل طوال حياته العسكرية بأنه “رجل الفضائل”؛ فلم يكن يدخّن أو يشرب الخمر أو يمضي لياليه في الملاهي الليلية، وكان معتدًا بنفسه وواثقًا من إمكاناته، محبًا للناس، يستمتع بالدعابة اللطيفة والنكتة الحلوة، وعلى استعداد دائم لمشاركة الآخرين في حمل أعبائهم، وتقديم المساعدة عنما يحتاجون، مستقل بأفكار، لا يميل إلى الجدل، يجمع بين المرونة والقوة، حسن المظهر دائمًا، واقعي وعملي وحذِر، وقويّ الانتباه.
وعلى المستوى القيادي، كان روميل من أقدر قوّاد ألمانيا العسكريين؛ اتسمت خططه بالمفاجأة والخداع، وكان ذا قدرة على المبادأة والالتفاف، وذا مقدرة متميزة على استخدام الأرض، ولا يكلّ من الاستكشاف، وكان شجاعًا جريئًا بشكل غير مسبوق، وكان مشهورًا بكثرة انتقاله في خط النار أثناء المعارك، واشتهر بأنه كان دائمًا يعلم عن العدو أكثر مما يعلمه العدو عنه، وكان يتناقل المعلومات مع رؤسائه ومرؤسيه، ومع ضياط الصف أحيانًا.
كان وهو في الخطوط الأمامية، لا يكترث للأوامر التي تصله من الخلف، بل ويحالفها أحيانًا، مادام لديه من المعلومات ما هو أدق مما لدى قياداته في الخلف. ولا يضيّع لحظةً تمكّن العدو من الإفلات، بل وطالما دفع برجاله داخل اشتباكات النيران ليكسب الوقت.
تبنّى روميل منذ الحرب العالمية الأولى خطط الاختراق والتوغل بعمق، فكان يتجنّب أعمال القتال الجبهية، ولكنه كان إذا ما اضطر إلى الهجوم الجبهي، كان يركّز هجومه عبر نيران شديدة على كافة قطاع الخَرق، مع التركيز بدرجة أكبر على مركز الخرق، ثم يندفع بهجوم حاسم على جبهة ضيقة. ويعمل بعد ذلك على توسيع الثغرة باستخدام النار الجانبية على خطوط العدو، فيما يندفع باستمرار للأمام لضرب مؤخرة العدو. وقد قام بتطوير هذه الخطط وتطبيقها على نطاق أوسع في الحرب العالمية الثانية، خصوصًا عندما توافرات له قوات الصدمة متمثلة في “دبابات البانزر”.
عكف على دراسة كتب الجنرال البريطاني المختص بقتال الدبابات “فولر”، والمنظّر الإستراتيجي البريطاني “ليدل هارت”، وأفاد كثيرًا من الدروس المستخلصة من تجربة الحرب البولونية، إضافة إلى قناعاته القديمة بالحرب الخاطفة، التي كان يؤمن بفاعليتها ويتقن أساليبها.
نشأة روميل الثعلب
ولد “إروين روميل” في هيدنهيم ويرتنبرج، في 15 نوفمبر 1891م، لأبوين متوسطي الحال، وتأثر خلال نشأته بصناعة المناطيد في بولستن، إلا أن والده أرسله للالتحاق بالحيش. التحق بالجيش الألماني برتبة ضابط عام 1910م، ومع دخول الحرب العالمية الأولى كان روميل برتبة ملازم ثانٍ، وحارب في صفوف الجيش الألماني في الميدان الغربي، وجُرح في فرنسا عندما كان أركان حرب كتيبته في معركة أرجون عام 1915م.
روميل في الحرب العالمية الأولى
في 26 أكتوبر 1917م، أحرز روميل أول انجاز رفيع في حياته العسكرية، عندما احتل جبل ماتاجور جونبي غرب كاوريتو، وتمكّن ورجاله من هزيمة 5 ألوية إيطالية في 48 ساعة فقط، وأسروا منهم 150 ضابطًا و9 آلاف رجل، وعلى إثر هذا الإنجاز حصل على وسام الاستحقاق الذي لم يكن يحصل عليه إلا كبار القادة. وفي العام التالي ترقّى إلى رتبة نقيب، وعمل كمساعد أركان حرب بفرنسا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
وقبلها في يناير 1917م، كان قد خدع فصيلة رومانية وألجأها إلى التسليم، بعد أن أوهم قائدها أن الحرب انتهت. وأعاد هذه الخدعة لاحقًا مع الطليان بنفس النجاح.
مرارة ما بعد الهزيمة
أمضى روميل فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهو يتجرّع مرارة الهزيمة، شأنه شأن معظم الضبّاط الألمان. وبين عامي 1920 و 1925، عمل روميل كأركان حرب الكتيبة الأولى من اللواء 13 مشاة، برتبة كابتن. وعندما تولى هتلر الحكم، كان روميل يدرّس تكتيك المشاة في أكاديمية درسدن الحربية. وفي عام 1935 وضع كتابًا صغيرًا عن تعليم البلاتون والسرية، كما وضع في عام 1937 كتابا آخر استودعه تجاربه في كتيبة ويتنبرج الجبلية، وكلا الكتابين اعتمادًا على الأسس التي كانت مستعملة في الحرب العالمية الأولى. وأعيد طبع هذه الكتب أكثر من 12 مرة، تحت اسم “هجوم المشاة” في عامي 1941 و1942م.
ترقيات روميل
عُيّن روميل بعد ذلك مدربًا في الأكاديمية الحربية ببوتسدام، برتبة عقيد/ في 15 أكتوبر 1935م، وبقي فيها حتى ترقّى إلى رتبة عميد، ثمّ عُيّن مديرًا للأكاديمية الحربية في وينرنوستادت. قرأ هتلر كتاب روميل “حرب المشاة”، فأعجب به وعيّنه قائدًا للفوج المسئول عن حمايته خلال اجتياح إقليم السوديت، ثم عهد إليه لاحقًا بقيادة نفس الفوج أثناء دخوله إلى براج في 13 مارس 1939م. وظلّ روميل حتى لحظة انتقاله من هذا المنصب، مقتنعًا بأنه لن تحدث حروب عالمية جديدة، خصوصًا بعد ما عانته البشرية من أهوال في الحرب العالمية الأولى.
بعدها طلب روميل من هتلر أن يعهد إليه بقيادة فرقة مدرّعة، فاستجاب له هتلر، وسلّمه في 15 فبراير 1940م، قيادة الفرقة المدرّعة السابعة في جويسبرج على نهر الراين، تصحبه شهرته باعتباره خبيرًا في المشاة، حيث كانت القوات الألمانية تستعد لاجتياح الغرب.
روميل يقود مقرّ قيادة هتلر الرئيسي
كان أول اتصال لروميل بالحركات الحربية واسعة النطاق، عندما أسندت إليه قيادة مركز رئاسة هتلر الخاصة، أثناء الزحف على فيينا وبراج ووارسو.
روميل في الحرب العالمية الثانية
بعدها بدأ نجم روميل في الصعود، إذ كانت فرقته السابعة المدرّعة هي أول من عبر نهر الموز حين صدرت الأوامر باجتياح بلجيكا، مقتحمًا امتداد خط ماجينو، مندفعًا بفرقته غلأى الأمام على شكل سهم ضيّق بعرض 3 كيلومترات، وبلغ طوله 50 كيلومترًا حتى وصل إلى البحر عند آب فيل، وتمكّنت كتيبة مدفعية تابعة له من أسر 48 دبابة فرنسية سليمة، فضلاً عن أرقام كبيرة من الأسرى والغنائم الأخرى، فاعتبر من حينها من أنجح قواد الفرق المدرّعة، وترقى إلى رتبة لواء، وحصل على وسام الصليب الحديدي.
في 6 فبراير 1941م، وُضِع روميل على رأس الفيالق الأفريقية، وهي نخبة من القوات، دُرّبت بشكل خاص على غزو الصحراء الليبية الأفريقية، وبدأ روميل نشاطه في أفريقيا من 12 فبراير 1941 حتى أواخر سبتمبر 1942م.
كانت القيادة الألمانية في تلك المرحلة تعتبر مسرح عملياتها الرئيسي هو الاتحاد السوفييتي، وأن مسرح عمليات شمال أفريقيا مجرّد مسرح ثانوي؛ بينما اعتبر روميل مسرح عملياته الرئيسي هو ليبيا، وأنه الفارق في تقرير النتيجة النهائية للحرب. وكانت خطته الشاملة تتضمن الاستيلاء على قناة السويس، والاستيلاء على البصرة لقطع طريق الإمدادات الأمريكية إلى الاتحاد السوفييتي، والسيطرة على الشام، واستمالة تركيا لدعم ألمانيا؛ وهي الخطة التي كانت ستسمح للألمان بفتح جبهة جديدة في القوقاز ضد الاتحاد السوفييتي، ووضع القوات السوفييتية في دائة حصار محكمة، وتدميرها والقضاء عليها.
لكن رؤية روميل، لم تحظ بالتوافق مع رؤية القيادة الألمانية، وبالتالي حُرِم مسرح عملياته في أفريقيا من الدعم الحقيقي، ولم يصل حجم القوات الألمانية والإيطالية التي كانت تحت قيادته إلى القدر المناسب لتنفيذ خطته. وفي المقابل كانت القيادة البريطانية تقدّر أهمية مسرح عمليات أفريقيا ودوره الخطير في التأثير على مجريات الحرب، فزّجت قوات كبيرة كافية لمجابهة طوحات وتحديات روميل.
على مدار عامي 1941 و1942م، تتابعت المعارك اللاهثة والمواجهات الضارية بين روميل والبريطانيين، لدرجة أوصلت الإنجليز للإعلان عن أنهم يعتبرون روميل هو أقدر مَن أنجبتهم هذه الحرب من القواد. غير أن القائد البريطاني مونتجمري كان هو الوحيد الذي استطاع بذكائه أن يكتشف أن خطط روميل تسير على وتيرة واحدة، وهو ما مكّنه من أن يهزم روميل في معركة العلمين الشهيرة الممتدّة، والتي اختار روميل أن ينسحب ويحافظ على من تبقى معه من جنوده، مخالفًا بذلك أوامر القيادة الألمانية العليا.
أبرز نتائج تجربة روميل في حرب الصحراء
خلال الفترات البينية القصيرة بين المعارك، توافر لروميل الوقت لتأمّي تجاربه القتالية في الصحراء، واستخلص منها بعض النتائج:
– ضرورة توافر قيادة متحركة، ونشطة، ومندفعة، تتوافر لها حرية العمل العسكري.
– توافر القدرة للتدخل فورًا من أجل توجيه وتعديل أي تحرك للقوات.
– اتخاذ القرارات المناسبة، وتنفيذها بسرعة، على ضوء المواقف المتجددة.
– تأمين المباغتة، وزيادة الاعتماد على الخطط الخداعية.
– بذل كل جهد مستطاع لإرغام العدو على القتال، وتهديد خطوط تراجعه وانسحابه.
ما بعد حرب الصحراء
بعد الخسارة في أفريقيا، تم تعيين روميل في أواخر صيف 1934 قائدًا لمجموعة الجيوش (ب) في شمال إيطاليا، غير أن الخطر الأكبر الذي كان يتهدّد ألمانيا كان هو القادم من الشمال عبر جدار الأطلسي؛ فتمّ تعيين روميل قائدًا لمجموعة الجيوش (أ) في فرنسا. ورغم القيود الروتينية التي فُرضت عليه، إلا أنه بذل جهدًا مضنيًا لتنظيم الدفاع عن جبهة الأطلسي (ما بين هولندا ونهر اللوار في فرنسا)، قبل أن يتمكّن الحلفاء من إنزال قواتهم في نورماندي، بإمكانيات لا قبل لألمانيا بمجابهتها.
النهاية المشرّفة لثعلب الصحراء
تعرّض روميل في خضّم هذا الصراع لإصابة على إثر محاولة اغتيال؛ دخل على إثرها المستشفى، وبعدها بثلاثة أيام في (20 يوليو 1944م) جرت محاولة اغتيال لهتلر ونجا منها. واكتشف هتلر على إثرها تآمر مجموعة من القادة الألمان من أجل إيقاف الحرب والاتصال بحلفاء الغرب على أمل إجراء تسوية سلمية تجنّب ألمانيا كارثة الدمار وذلّ الاحتلال. حملت هذه المجموعة اسم “المتآمرين في مؤامرة 20 يوليو 1944م، وتضمّنت التقارير السرية المرفوعة لهتلر ورود اسم روميل في المجموعة.
حين عُرض على روميل الاشتراك في هذا المخطّط، لم يوافق على المشاركة المباشرة، وفي الوقت ذاته لم يخن ثقة زملائه ويكشف أمرهم، وإن كان أبدى موافقته على العمل مع الحكومة الجديدة في حال نجاح المخطّط.
كانت معضلةً أمام هتلر أن يظهر للعلن اشتراك روميل في المؤامرة؛ فانتظر حتى خروج روميل من المستشفى وتعافيه، وأرسل إليه اثنين من قادة الجستابو وخيّره بين أمرين: أن ينتحر بسم السيانيد وتظلّ أسرته آمنة، أو تجري محاكمته وإعدامه هو وأسرته بتهمة الخيانة، فاختار روميل تناول السم، وتمّ ذلك في 14 أكتوبر 1944م.
وتم الإعلان عن وفاة روميل جرّاء أزمة قلبية تعرّض لها أثناء أداء واجبه على الجبهة الغربية، وأقيمت له جنازة عسكرية هائلة حوّلها هتلر إلى مناسبة قومية واستغلها بشكل دعائيّ.
المصادر
– مذكرات رومل، عرض وتحليل وتقديم: د. أيمن محمد عادل، مكتبة النافذة، القاهرة، 2007م.
– روميل والفيلق الإفريقي: حرب الصحراء، العميد الركن سليمان محمود سليمان، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، 1998م.
– أطلس الحربين؛ الحرب العالمية الأولى والثانية، عصام عبد الفتّاح، شركة الشريق ماس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015م.
– المذهب العسكري الألماني 1750- 1945م، بسام العسلي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، 1987م.
– أشهر قادة الحرب العالمية الثانية، عبد الفتاح حسن ومنقريوس نظمي وأحمد الأرفلي، إدارة العمليات الحربية، القاهرة، 1949م.