جاء إلى عالَم الكتابة بموهبةٍ فِطرية، أهّلته للاحتراق في المياه والغرق في النيران، وإبراز حقيقته الصادمة أمام الجميع بلا تردّد أو هوادة. إنه الكاتب الأمريكي والشاعر والروائي تشارلز بوكوفسكي، الذي التزم الصِدق الفاحِش والفظاظة التلقائية الجارحة، دون التزامٍ بحُرمةٍ للّغة أو بشرفٍ للكلمة. فيما يلي نتعرّف على الكاتب الذي شاركت كتاباته في إحداث انقلابٍ في مفهوم الكتابة في الأوساط الأدبية الأمريكية.
طريق بوكوفسكي الملغّم بالألم
ولد تشارلز بوكوفسكي في 21 أغسطس عام 1920م، في مدينة أندرناخ بغرب ألمانيا، وبعد عامين هاجرت عائلته إلى أمريكا. كانت والدته قد التقت والده بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى التي كان تابعًا فيها للقوات الأمريكية.
في أمريكا، اصطدمت أحلام والديه بكارثة الكسار العظيم الذي اكتسح امريكا أواخر عشرينات القرن الماضي، وهو ما جعل الأب شخصًا عاطلاً عنيفًا ومحبَطًا، ونقل عنفه وإحباطه إلى ابنه تشارلز، الذي عاش طفولةً قاسية نفسيًا ومعنويًا وجسديًا.
نشأ تشارلز بوكوفسكي وحيدًا معزولاً وسط أسرةٍ باردة شديدة الصرامة، ووجد نفسه ضمن المهمّشين والفقراء، لكنه في الوقت ذاته وجد ملاذه في الكتب والقراءة وشرب الخمر، ولاحقًا في أوائل الستينات بدأ يضيف إليها: الكتابة.
في 1955م، تعرّض بوكوفسكي لنزيف حاد من فمه ومؤخرته، وكاد أن يفقد حياته بسبب تأخّر تلقيه للعناية الطبية، وقد أثّرت هذه التجربة بشكل سلبي على ذاكرته وعلى قدرته على النطق.
ونظرًا لاحتياجه لتأمين متطلبات الحياة الأساسية، اضطر بوكوفسكي إلى التنقّل بين عدد من الوظائف التي أتاحت له فرصًا هائلة للاحتكاك بالمجتمع السفلي من الفقراء والمعدَمين، قبل أن يقرّر أن يتخلّى عن كل تلك الوظائف، ويتفرّغ كليّةً إلى الكتابة.
أخذت شهرة بوكوفسكي تتوسّع في أوروبا (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، ….)، مع تلاجمة أعماله لتلك اللغات، في الوقت الذي كان لا يزال يعاني فيه من تجاهل النقاد والمؤسسة الأدبية في أمريكا.
وبعد معاناة مع مرض سرطان الدم، توفّي بوكوفسكي في 9 مارس عام 1994م، عن عمر يناهر 73 عامًا.
أسلوب بوكوفسكي في الحياة
كان تشارلز بوكوفسكي متماديًا لا يتهاون، ولا يوجد شيء محرّم بالنسبة له مهما بدا هذا محرجًا أو فظًا أو منتهكًا للخصوصية. وكانت حياته العاطفية مبتلاة بالعجز الجنسي بسبب إدمان الكحول، إلا أنه كان عندما ينجح في ممارسة الجنس، فإنه يحكي هذا سريعًا بأدقّ التفاصيل.
اعتبر بوكوفسكي ممارسة الجنس حالةً من حالات الدفاع عن النفس في وجه الموت، لكنه في الوقت ذاته لا يشكّل مادّة الحبّ لوحده، ولا يكفي الاتصال الجنسي بالمرأة للتعويض عن الحبّ.
كان بوكوفسكي كثير الشجار، يحيا دائمًا بإحساسٍ بعدم الأمان. يتصرّف وفق ما تمليه غرائزه الداخلية، دون تقيّد بالأعراف والتقاليد والضوابط العامّة.
أسلوب بوكوفسكي في الكتابة
هناك بعض المميزات التي اطّرد تواجدها في كتابات بوكوفسكي المتنوّعة (روايات، قصائد، قصص قصيرة، مسرحيات)، نذكر منها:
- براعة بوكوفسكي في نقل أجواء أولئك الذين خذلتهم الحياة، ومع ذا يستمرون في العيش بكامل طاقتهم.
- عدم انشغال بوكوفسكي بإقحام أدبه في الاحتمالات الميثولوجية الكامنة في الغرب الأمريكي، كعادة أي كاتب مهاجر.
- إتقانه لإبراز الفكاهة والمفارقات الساخرة في تكوينو حيوات شخصياته، وأحسن توظيفها.
- أدخل بوكوفسكي إلى شعره الكثير من خواص الرواية والقصة القصيرة، خصوصًا في الحوارات والسرد، وحرص على أن يبقى شعره بسيطًا غير مدّعٍ أو متعالٍ ثقافيًا.
- يحضر الواقع بشدّة في البناء الأدبي لبوكوفسكي من زاوية التورّط الشخصي، والنظرة الفاحصة إلى هذا الواقع الذي لم تعد تفاصيله مجرد ذريعة أو مبرّر أو مجازًا عن تعبير سياسيّ مضمر، بل أصبح واقعًا بديلاً قائمًا في ذاته.
- تتميّز كتابة بوكوفسكي بأنها موتّرة للأعصاب، تبدأ وتنتهي على نحوٍ غريب، وتلقي القارئ في حقل ألغامٍ وتساؤلاتٍ حول الواقع والبشر والمألوف وحقائق الوجود.
تأثير بوكوفسكي
انطلق بوكوفسكي من خارج المؤسسة الأدبية والسياسية والاجتماعية الرسمية في أمريكا، وشارك في إحداث انقلابٍ على صعبد مفهوم الكتابة، سواء في صلتها بالسائد، أو في مقاربتها للحياة والواقع، أو في معاييرها الكتابية والإبداعية واللغوية.
كرّس بوكوفسكي الكتابة اليومية، وأدخل العنصر الاحتجاجي وحياة المهملين والبائسين والمهمّشين في صلب الكتابة؛ فلم يقدّم مدينته لوس أنجلوس بصورتها المعتادة البرّاقة، وإنما قدّمها باعتبارها مدينة الأحلام المتبخّرة والوظائف العقيمة والعاهرات والمقهورين والمكسورين والمختلّين.
وإجمالاً، كان بوكوفسكي صوتًا عبقريًا نافذًا أكسب الشعر الأمريكي والرواية الأمريكية مذاقًا خاصًا صادمًا غير مسبوق على الساحة الأمريكية. وقد ظلّ بوكوفسكي راعي البقر الذي لم يحرس قطيعًا، والعامل الذي لم يغادر مسلخ البهائم، والأديب الأمريكي الذي سبّ جمهوره فضحكوا له.
مؤلفات بوكوفسكي
ترك بوكوفسكي تراثًا غزيرًأ يقارب 70 كتابًا، ألّفها على مدار 40 عامًا، بين مجموعات شعرية وروايات ومسرحيات، نذكر منها:
- (زهرة، وقبضة، وجدار بوهيمي)، 1959م.
- (قصائد طويلة المدى للاعبين مفلسين)، 1962م.
- (رسوم وقصائد)، 1962م.
- (تمسك قلبي بيديها)، 1963م.
- (اعترافات رجل مجنون بما يكفي للعيش مع الوحوش)، 1965م.
- (أنا وكلّ سفلة العالم)، 1966م.
- (عبقري الحشد)، 1966م.
- (في شارع الرعب وطريق العذاب)، 1968م.
- (قصائد كتبت قبل القفز من نافذة الطابق الثامن)، 1968م.
- (يوميات عجوز أزعر)، 1969م.
- (الأيام تعدو هاربة كجيادٍ جامحة على التلال)، 1969م.
- (سيارة الإطفاء)، 1970م.
- (الطائر الغريد يتمنّى لي الحظ الطيب)، 1972م.
- (جنوب الشمال)، 1973م.
- (الاحتراق في المياه، الغرق في النار: قصائد مختارة)، 1973م.
- (الحب كلب من الجحيم)، 1977م.
- (نساء)، 1978م.
- (شكسبير لم يفعل هذا قطّ)، 1979م.
- (موسيقى المياه الحارة)، 1983م.
- (تحت التأثير)، 1984م.
- (الحرب طوال الوقت)، 1984م.
- (وحيد في زمن الجيوش)، 1986م.
- (مفلسون يا حبيبتي لكن لدينا المطر)، 1990م.
- (في ظلّ الوردة)، 1991م.
- (الليلة الأخيرة على كوكب الأرض)، 1992م.
- (مشهور افتراضيًا)، 1992م.
- (صرخات من الشرفة: رسائل مختارة)، 1995م.
- (الكذب على الحظ: رسائل مختارة)، 1995م.
- (القبطان خرج لتناول الغداء والبحّارة استولوا على السفينة)، 1998م.
- (أكثر ما يهم: مهارتك في عبور النيران)، 1999م.
- (المكان مفتوح طوال الليل: قصائد جديدة)، 2000م.
اقتباسات ومقولات بوكوفسكي
- الكتابة الحذِرة هي كتابة ميّتة.
- أن تخلق فنًّا؛ هذا يعني أن تبقى مجنونًا وحيدًا إلى الأبد.
- أعتقد أنه يجب إجبار الرجل على الكتابة في غرفةٍ تعجّ بالجماجم، وحله قطع لحم معلّقة، قضمتها الجرذان الكسولة والسمينة.
- ﺗﻮﻗّﻒ ﻋﻦ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﺍﻫﺘﻤﺎﻣﻚ باعتباره واجبًا عليك. إذا أحسست بأمرٍ كهذا فارحل فورًا؛ إذا لم تكن تهتمّ بدافع الحب فلا تهتمّ أبدًا.
- أُحِب أن أبقى وحيدًا، لا أملّ من نفسي أبدًا. ربما أشعُر بالإكتئاب، لكنه مُختلف تمامًا عن الشُعور بالملل.
- العالمُ اليوم باتَ غريبًا جدًا، لم تعد اللطافة والعفوية أمورًا سهلة، بل ينبغي أن نتدرّب على ممارستها جميعًا.
- لا شيء يمكن أن أقوله إلا ويعني شيئاً آخر لذا قررت الصمت.
- لن يدركوا هذا الأمر قطّ؛ أنّ العزلة أحيانًا تكون من أجمل الأشياء في هذا العالَم.
- المحامون، الأطباء، السباكون، جميعهم يكسبون المال. أمّا الكُتّاب؟ أيها الكُتّاب جوعوا، انتحروا، جُنّوا.
مصادر
- الحبّ كلب من الجحيم، تشارلز بوكوفسكي، ترجمة سامر أبو هوّاش، منشورات الجمل، 2009م.
- مكتب البريد، تشارلز بوكوفسكي، ترجمة ريم غنايم، منشورات الجمل، 2014م.
- أدب رخيص، تشارلز بوكوفسكي، ترجمة إيمان حرز الله، منشورات الجمل، 2016م.