لـ الأديرة القبطية مكانة ثقافية وسياحية كبيرة، بجانب مكانتها الدينية لدى المسيحيين، وذلك نتيجة بقاء هذه الأديرة حافظة لتاريخها وطقوسها وجغرافيتها منذ ما يربو عن 1700 عام.
وتناثر هذه الأديرة بين صحراء مصر الشرقية والغربية والصعيد والوجه البحري يعطيها تفردًا زائدا، نحاول من خلال هذه السلسلة، إلقاء الضوء على القيمة التاريخية لهذه الأديرة، وكذلك أهم مميزاتها، وفيما تختلف عن بعضها، وكذلك فيها تتفق، مع توضيحها بالصور.
دير السيدة العذراء مريم العذراء البراموس بوادي النطرون
كلمة براموس كلمة يونانية ومعناها “أملاك الروم”، وسمي هذا الدير بذلك نسبة إلى ملكين من الروم ترهبّا في هذا الدير بعد تنازلهما عن المُلك، هما مكسيموس ودوماديوس، في القرن الرابع الميلادي، وهي تسمية لاحقة عن إنشاء الدير، حيث أنشأئه القديس مكاريوس، وكان معلما للرهبان الصغار الذين رأوا فيه معلمًا وأبًا فتجمعوا حوله، وسماه باسم القديسة العذراء مريم.
ويحوي الدير عدة معالم شهيرة، منها كنيسة القديسة العذراء مريم، وهي من أقدم كنائس صحراء وادي النطرون، بالإضافة إلى مكتبة وحصن وعدد كبير من المخطوطات الأثرية.
تخرّج من هذا الدير 6 من بابوات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، آخرهم قداسة البابا كيرلس السادس، البطريرك رقم 116، والذي رأس الكنيسة المصرية في الفترة من 1959 وحتى 1971.
دير القديس أبو مقار بوادي النطرون البحيرة
يقع هذا الدير في المدخل الجنوبي لمدينة السادات بالبحيرة، وهو أحد أديرة وادي النطرون الأربعة الشهيرة، وينسب حسب اسمه إلى القديس مقار الكبير، أوّل من ترهّب في وادي النطرون وهو أحد تلاميذ الأنبا أنطونيوس، مؤسس الرهبنة، وبني الدير في نهاية القرن الرابع الميلادي.
يحوي هذا الدير مجموعة من الكنائس الأثرية، بالإضافة إلى مكتبة عريقة، ومتحف، ومستشفى صغير، وعدد من المباني يسكنها عاملون بالدير من غير الرهبان.
على مر تاريخه، وقع أكثر من هجوم على هذا الدير، من قبل البربر وغيرهم، وهُدم، وأعيد ترميمه، ومن غير المعتاد والمثبت تاريخيا زيارة خمارويه بن أحمد بن طولون لدير الأنبا مقار، وتعتبر هذه أول زيارة لحاكم مسلم إلى أحد أديرة وادي النطرون، منذ دخول الإسلام مصر، كذلك زار هذا الدير الظاهر بيبرس، عام 1264 ميلادية.
أخرج هذا الدير 36 من بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على مدار تاريخه، وكان منارة، وما زالت أجساد معظمهم محفوظة داخل الدير، في مقصورات خشبية، مكتوب عليها سيرة كل بطريرك منهم.
تطورات بدير الأنبا مقار
خلال الخمسين عام الأخيرة، شهد هذا الدير تطورات من الناحية الإدارية، حيث رأسه الأنبا ميخائيل، مطران أسيوط، “مطران كلمة أصلها إغريقي وتعني قاضيًا، وهي رتبة كنسية تتساوى مع رتبة محافظ بالنسبة للمناصب الإدارية”، أما التطوّر فهو خاص بإدارة الدير، حيث رأسه قداسة البابا شنودة الثالث فترة قصيرة، ثم الأنبا إبيفانيوس، في مارس 2013، حتى قُتل داخل الدير، في يوليو 2018، ليقرر بعدها البابا تواضروس الثاني، بطريرك الكرازة المرقسية، أن يرأسه بشكل مباشر، وحتى الآن.
دير القديسة العذراء مريم المحرّق بالقوصية أسيوط
بين هذا الدير وبين مدينة القوصية بأسيوط حوالي 12 كيلومترًا، يسمى هذا الدير بدير جبل قسقام، وهي كلمة فرعونية قديمة، و”قسقام” اسم مدينة فرعونية اندثرت حاليا، وكانت إحدى ولايات صعيد مصر، وزارت العذراء مريم وابنها يسوع وخطيبها يوسف النجار هذه المنطقة في أثناء هروبهم من فلسطين إلى مصر، ما جعل هذا المكان مباركًا في اعتقاد الكثيرين.
وبدأ الرهبان في القرن الرابع التوافد إلى هذه المنطقة، لينشأ دير العذراء بأسيوط من خلال مجموعة من هؤلاء الرهبان، الذين كانوا تلاميذ للأنبا باخوميوس، والمعروف باسم “أب الشركة”، حيث رأى أنه من الأفضل أن يعيش مجموعات من الرهبان معيشة مشتركة في كل شيء، بدلا من أن يعيش كل منهم بمفرده منعزلا في الصحراء، وربما ساعد في دعم هذا الفكر ارتباط المصريين بهذا المكان، نتيجة زيارة العائلة المقدسة له.
أما اسم المحرّق، فجاء لأن هذه المنطقة كانت تُحرق بها الحشائش، فسميت المنطقة بالمحرقة، والدير بالمحرّق.
وحدثت نهضة في دير المحرق في البسعينيات من القرن الماضي، حيث اهتم قداسة البابا شنودة الثالث، حيث اهتم بطويره إداريا ورهبانيًا، ليكون مصدرًا روحيًا قويًا لكل كنائس الصعيد وأديرته ومسيحييه.
دير الأنبا صموئيل المعترف بمغاغة محافظة المنيا
يُنسب هذا الدير إلى الأنبا صموئيل، وهو قديس مسيحي ولد في أواخر القرن السادس، وبني الدير في منتصف القرن السابع، يقع في قلب جبل القلمون بالقرب من مدينة العدوى شمال المنيا، ويبعد عن العمار مسافة 25 كيلومترًا في قلب الصحراء الغربية المصرية.
من أهم معالم دير الأنبا صموئيل، القلاية التي عاش فيها مؤسس هذا الدير آخر فترات حياته، كما يضم الدير 4 كنائس، ويفضّل الكثير من أقباط الصعيد زيارته بصفة دورية.
بعد حادثتين عرض لهما زوار دير الأنبا صموئيل، قررت الحكومة المصرية ممثلة في وزارة الإسكان، تأهيل الطريق الذي يؤدي إلى الدير بطول 25 كيلومترًا، من الطريق الصحراوي الغربي وحتى أبواب دير الأنبا صموئيل، وتم الانتهاء من تنفيذه في مايو 2020.
دير الشهيد مارمينا بصحراء مريوط، الإسكندرية.
يُعتبر دير الشهيد مارمينا بمريوط أحد الأديرة التي تم إنشاؤها حديث في الكنيسة القبطية، ويقع في برج العرب، 50 كليومترًا جنوب الإسكندرية، حيث أنشأه ووضع حجر الأساس له قداسة البابا كيرلس السادس، البابا رقم 116 من بطاركة الكنيسة، عام 1961، ولكن الإنشاءات بدأت فعليا عام 1969، وافتتحه البابا شنودة الثالث في عام 1976.
البابا كيرلس ودير مارمينا
أوصى البابا كيرلس السادس أن يُدفن في هذا الدير، وبالفعل تم إنشاء “مزار” له في الدير وضع فيه جثمانه وبعض مقتنياته، عام 1972، ويزور الدير عدد ليس بقليل من المسيحيين بشكل دوري نظرًا لقربه من مدينة الإسكندرية وحداثته، ولارتباطه بالبابا كيرلس، البطريرك السابق للبابا شنودة، وقد كان له شعبية كبيرة في قلوب الأقباط، لروحانيته الشديدة.
تم اختيار هذه المنطقة تحديدًا لإقامة الدير، بسبب ارتباط القديس مينا بها، والذي عاش في أوائل القرن الرابع، وتم دفنه في هذه الصحراء، وبنيت كنيسة قديمة على اسم هذا القديس في نهاية القرن الرابع، على يد البابا أثناسيوس الرسولي، البطريرك رقم 20، فجاء هذا الدير ليكون بمثابة تكريم لهذا القديس الذي كان قائدًا بالجيش المصري.
وتعتبر اليونسكو منطقة الدير وما حولها من المناطق الأثرية، وأقرتها كتراث إنساني يجب الاهتمام به والمحافظة عليه، بما يعرف بمنطقة أبو مينا الأثرية.
يضم هذا الدير مجموعة من الكنائس، بالإضافة إلى مركز للميكروفيلم يستقبل فيه المخطوطات القديمة ويعالجها كميائيًا ليحافظ عليها، كما يحوي الدير مكتبة ومطبعة ومضيفة، وعدة مباني لاستقبال الضيوف.
وسنكمل في هذه السلسة التعريف بالأديرة القبطية العامرة، تابعونا.
- مصادر
- تاريخ الرهبنة والديرية في مصر وآثارهما الإنسانية على العالم، د. رؤوف حبيب، مكتبة المحبة.
- التربية عند آباء البرية، القس أثناسيوس فهمي جورج.
- الأنبا صموئيل وبديع حبيب، الكنائس والأديرة القديمة بالوجه البحري والقاهرة وسيناء، معهد الدراسات القبطية.
- الآثار القبطية في وادي النيل دراسة في الكنائس القديمة، سومرز كلارك، ترجمة: إبراهيم سلامة إبراهيم، الهيئة العامة للكتاب.
- منير شكري، أديرة وادي النطرون، جمعية مار مينا العجائبي.