اشتهر بأنه الفيلسوف الغامض، الذي لا يهدأ ولا يكفّ عن التساؤل وتوليد الإشكالات الفلسفية ومطاردتها بلا هوادة، والعمل على حلّها. انتمى إلى الفلسفة الوجودية أولاً، ثم وفّق بينها وبين الفلسفة الظاهراتية، وكان أوّل مَن أعطى الظاهراتية منحىً تأويليًا. فيما يلي نتعرّف على الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايدجر، وأبرز ملامح فكره وإنتاجه الفلسفي.
مارتن هايدجر ومراحل التكوين
ولد مارتن هايدجر في 26 مايو عام 1889م، في ميسكرخ، جنوب ألمانيا. كان أكبر إخواته، والده هو فريدريش هايدجر الذي عمل شماسًا في الكنيسة الكاثوليكية وصانعًا للبراميل، ووالدته يوهنا المولودة في كيمبف.
درس مارتن في مدينة كونستانس، ثم في مدينة فرايبورج، وقد حاول الدخول إلى عالم الفلسفة وهو لا يزال في الثانوية، وذلك من خلال قراءته لثلاثة كتب، هي كتاب فرانتس برينتانو (1838م – 1971م) “الدلالات المتنوعة للوجود عند أرسطو”، وكتاب كارل برايج “عن الوجود: موجز الإنطولوجيا”، ثم كتاب إدموند هوسرل (1959م – 1938م) “بحوث منطقية”. وانشغل بتساؤلاته الخاصة هم الوجود والفكر متأثرًا بآراء برينتانو، وتبدو هذه الفترة هي التي شكّلت توجّهه الفلسفي.
كانا والد مارتن هايدجر قد وجّهاه عام 1909م إلى دراسة علم اللاهوت والفلسفة، ولكن بعد عامين، في 1911م، قرّر مارتن أن يتحوّل عن دراسة اللاهوت، ويتفرّغ لدراسة الفلسفة بجوانبها المرتبطة بالعلوم الرياضية والطبيعية. وقدّم أطروحته في الدكتوراة حول “نظرية الحكم في النزعة النفسانية” تحت إشراف أستاذه هاينريش ريكيرت.
منذ تلك الفترة، شره مارتن هايدجر في دراسة التراث الفلسفي بتعمّق، وحاول تمحيص النصوص الفلسفية الكلاسيكية والربط بين مشكلاتها ومشكلات الفلسفة في عصره. بقدوم فليلسوف الظاهراتية وزعيمها “إدموند هوسرل” إلى فرايبوج حيث يقيم هايدجر ويدرس، ازداد إعجابه بهوسرل وتأثر بأفكاره، بل انطبعت في أول الأمر بطابعه الخاص، فقدّم تحت إشرافه رسالة الدكتوراة عن “نظرية المقولات والمعنى عند دونس سكوت”.
في 1917م، تزوج هايدجر من الآنسة إلفريد بيتري، وأنجبت له ولدين: يورج في 1919م، وهيرمان في 1920م، وهو ما شجعه على أن يأخذ خطوة مميّزة ببناء بيت ريفيّ في توتنآوبيرج بأعالي الغابة السوداء، وساعده جدًا هدوء البيت في أعماله الأكثر عمقُا وأصالة، الأشدّ إيجازًا وتركيزًا، ويعدّ محاضراته، ويؤلف أعماله الرائدة.
الوجود والزمن مع هايدجر
بتعيين مارتن هايدجر للتدريس في فرايبورج، أصبح قبلةً لأفضل طلاب الفلسفة نظرًا لآرائه الفلسفية العميفة وأفكار الأصيلة. ولم يلبث أن عيّن أستاذًا في جامعة ماربورج عام 1923م. في هذه المرحلة، بدأ هايدجر يتعمق في دراسة مشكلة الوجود ومسائل ما وراء الطبيعة ومشكلة الحقيقة، ونتج على إثرها كتابه “الوجود والزمن” في عام 1927م، الذي شكّل الخطوة الأولى في بحث الوجود، وفق منهج ظاهراتي، يرسم طريقًا أنطولوجيًا جديدًا في مقابل البداية الخاطئة التي اتسمت بها دراسة علم الوجود منذ العصور القديمة إلى اليوم، ويضع الزمن شرطًا لإمكانية الوجود.
بدأت شهرة الكتاب قبل صدوره فعليًا، وذلك امتدادًا لشهرة هايدجر نفسه في التدريس الجامعي. وفور صدور الكتاب تصدّر أدبيات الحركة الظاهراتية، واعتُبر بداية لتفلسف جديد، رغم عدم اكتمال مادته بشكل نهائي، إلا أنه فتح آفاقًا جديدة لبحوث موالية تحلّل الموقف الإنساني وتفكّك قوام الأنطولوجيا القديمة، وهو ما أتاح للباحثين الفرصة لاكتساب التحديدات الوجودية القديمة.
تقوم فكرة الكتاب على التساؤل عن الوجود، وقد اختزل هايدجر هذا التساؤل في كلمة واحدة “الكينونة”. فما معنى الكينونة؟ وما الذي يجعل الشيء الكائن موجودًا؟ يرى هايدجر أنّ واجبنا هنا – من أجل النزاهة- أن نجتهد بفعالية للتغلّب على أحكامنا المسبقة. الإنسان لا يمكنه فهم كينونته إلا من خلال ذاته الموجودة، فهو يدرك في كينونته أنه موجود، وأنّ له طبيعة ذاتية تساعده على التعبير عن ذاته بطرق مختلفة، وكينونته هذه في ذات الوقت هي دافعه إلى فهم الكينونة الكونية.
يتمّ هذا من خلال ثلاث صِلات مع الوجود: الصِلة بعالَم الأشياء، والصِلة بعالم المعيّة، والصِلة بعالَم الذات. وفقًا لهايدجر، فالقلق الروحي هو الشكل الأصلي للوجود، فالإنسان مخلوق نهائي قُذِف به الزمن (من ولادته إلى موته)، يخاطبه ضميره، وتنقطع صِلاته بالوجود الإنساني من طريق الموت الذي يرغمه على تحمّل عبء نفسه وحده دون مساعدةٍ من أحد؛ فأشدّ وحدةٍ يشعر بها الإنسان عند موته.
أبحاث هايدجر الفلسفية الجديدة
في العام 1928م، خلف هايدجر أستاذه هوسرل في جامعة فرايبورج، وقدّم في تلك الفترة أبحاثًا قيّمة، منها:
1. بحثه “كانط ومشكلة ما وراء الطبيعة” الذي قدّم فيه تأويلاً جديدًا لكتاب إيمانويل كانط الشهير “نقد العقل الخالص” مرتكزًا على موضوع الزمان عند كانط.
2. أيضًا قدّم بحثًا بعنوان “جوهر العِلّة”، فحَص فيه مشكلة التعالي / المفارقة، وطبيعة “العِلّة” ومفهوم “العالَم”.
3. كما قّدم بحثًا ثالثًا بعنوان “ما الميتافيزيقا؟”، كان بالأساس محاضرته الافتتاحية بمناسبة تعيينه أستاذًا، وعرّف فيه الميتافيزيقا باعتبارها “الحدث الأساسي في الوجود الإنساني”، ولا تعدو الفلسفة أن تكون مجرّد تحريكٍ للميتافيزيقا، عبر بذل الجهد الذاتي الخاص في الإمكانيات الأساسية للوجود الإنساني، ربّما من خلال توضيح التساؤل عن العدم.
هايدجر وما وراء الطبيعة
من الكتب التي توضّح فكر مارتن هايدجر وفلسفته، كتابه “مدخل إلى ما وراء الطبيعة”، الذي كتبه في فترة متأخرة نسبيًا، قاصدًا فيه استعادة “الوجود” التي مُنِيَ بالنسيان في الفكر الغربي. وقد بلور سؤاله الأساسي بصيغة: لماذا يكون هناك وجود بدل أن يكون هناك عدم؟ ما الأمر مع الموجود؟
حاول هايدجر تفسير كل ذلك من خلال فعل الكينونة، غير أن هذا التفسير لا يؤكّد إلا أن فعل الكينونة فارغ، ومعناه حائمٌ غير مستقرّ. هنا كان السؤال عن جوهر الوجود أكثر أهمية. الوجود بالنسبة لهايدجر هو المفهوم الأكثر شمولاً وفراغًا في ذات الوقت. فالوجود لا يعتبر مفومًا عامًا مطلقًا، وإنما هو الشيء الأكثر فرادةً وخصوصيةً في كل موجود.
يتلامس هايدجر مجددًا مع الزمن، عبر إقراره بأن فهمنا للوجود في ذاته يشكّل أكثر الأسئلة ارتيابًا، ومِن ثمّ فالقدرة على السؤال تعني القدر على الانتظار ولو كان ذلك “مدى الحياة” كلها.
يحدّد هايدجر الوجود وفق أربعة جوانب ينتمي بعضها إلى بعض، وتعبّر معًا عن “الحضور الدائم”، وهي:
1. الوجود والصيرورة. صفة الوجود هنا: البقاء.
2. الوجود والظهور. صفة الوجود هنا: التساوي الدائم.
3. الوجود والفكر. صفة الوجود هنا: التوفّر.
4. الوجود والواجب. صفة الوجود هنا: المعروض تحت اليدّ.
هايدجر وماهية اللغة والشعر
في عامي 1935 و1936م، قدّم هايدجر محاضرات عن “هولدرين وماهية الشعر”، تناول فيها تحليل ماهية الشعر، كمدخلٍ إلى فهم ماهية اللغة، وحاول الكشف عن النظرات الفلسفية العميقة التي تنطوي عليها تأملات الشعراء.
الأمر ذاته مارسه هايدجر مع الإنتاج الشِعري لـ”ريلكه”، الذي وصفه هايدجر بأنّ مراثيه تتضمّن الأفكار الأساسية لفلسفته، ولكن في قالب شِعري.
ورغم اندلاع الحرب العالمية الثانية، ظلّ هايدجر يحاول إيجاد أساس مشترك بين الفكر والشِعر، وبين الفِكر والفن. رأى هايدجر أن الفِكر والشعر شقيقان، وليس سِوى الفلسفة والشعر هما مَن يمكنهما الحديث عن العدم، على نقيض العِلم الذي لا يمكنه ذلك. بالتالي، صار لِزامًا على الشعر أن يجد طرقَ إنقاذٍ وسط هذا الانتشار المروّع للتقنية العالمية.
لاحقًا، سيضع هايدجر صيغة توضّح المشترك بين الفكر والشعر “المفكّر يقول الوجود، والشاعر يذكر المقدّس”. الفكر – بوصفه قول الوجود- يسعى إلى إدراك بنيات مجوعة وجودية تاريخية، كالعلاقة بين التقنية والفن مثلاً. لكن الأمر بالنسبة للإنسان لا يتعلق بعلنية ما هو موجود فقط، فهو يبحث في هذه العلنية عن مانح المعنى والمتقِذ، ذاك الذي يربط بين الناس بوصفه “مقدَّسًا”. في هذا المقدّس يمكن أن يتجلّى الإلهي. وشِعر الشاعر يسعى إلى مطابقة ما يطلبه المقدّس.
هايدجر وأصل العمل الفني
للمرة الأولى، جعل هايدجر الفنّ موضوعًا لتفلسفه، ووضع التحليل الظاهراتي للجمال الفلسفي على أساسٍ جديد. فكلّ عمل فنّي إنما هو “مُعطَى” من حيث كونه “شيئًا”، ومع ذا فقد فشلت الأنطولوجيا التقليدية في التعامل مع شيئيته. فالعمل الفني لا يمكن إدراكه بصورة مناسبة، لا على أساس كونه جوهرًا باقيًا رغم تغيّر خصائصه الشيئية، ولا من حيث مواده المكوّنة له فنيًا.
كلّ عمل فنّي يفتح عالَمًا على طريقته، ولكن هذا العمل يمضي إلى صورته الباقية الكاملة ليستقر فيها. وحقيقة الموجود توطّن نفسها في العمل الفني، والسمتان التاليتان: تشييد العالَم وإنتاج حالة الانكشاف والاختفاء المتبادَلة، جوهريتان في كينونة العمل.
مؤلفات مارتن هايدجر
- مشكل الواقع في الفلسفة الحديثة، عام 1912م.
- مذهب الحكم في النفسانية، عام 1914م.
- مفهوم الزمن في علم التاريخ، عام 1916م.
- مذهب المقولات والدلالات عند دونس سكوتس، عام 1916م.
- الوجود والزمن، عام 1927م.
- عن جوهر العِلّة، 1965م.
- كانط ومشكلة الميتافيزيقا، عام 1929م.
- ما هي الميتافيزيقا؟، عام 1929م.
- مذهب أفلاطون في الحقيقة، عام 1942م.
- عن جوهر الحقيقة، عام 1943م.
- عن الإنسانية، عام 1949م.
- الطرق المسدودة، عام 1950م.
- مدخل إلى الميتافيزيقا، عام 1953م.
- من تجارب التفكير، عام 1954م.
- ماذا يعني التفكير؟، 1954م.
- ما معنى هذا: “الفلسفة”؟، عام 1956م.
- عن مسألة الوجود، عام 1956م.
- نظرية العقل، عام 1957م.
- في الطريق إلى اللغة، عام 1959م.
- الرزانة، عام 1959م.
- الهوية والاختلاف، عام 1957م.
- نيتشه، عام 1961م.
- السؤال عن الشيء، عام 1962م.
- فرضية كانط عن الوجود، عام 1962م.
- شروح لأشعار هولدرين، عام 1963م.
- التقنية والمنحنى، عام 1963م.
- علامات الطريق، عام 1967م.
- الفن والمكان، عام 1969م.
- المشاكل الأساسية للظاهراتية، عام 1975م.
- المنطق: السؤال عن الحقيقة، عام 1976م.
قالوا عن هايدجر
– فالتر بيمل: “إن فِكر هايدجر لا يهدأ؛ رغم أنه يدور دائمًا حول الأمر نفسه. ففي كل مرة نتصور فيها أننا بلغنا في النهاية الهدف لنتمسّك به، يُلقي بنا إلى تساؤل آخر يزعزع كلّ توقّف لنا، ويصبخ ما قد بدا هدفًا ونهايةً: نقطة انطلاقٍ إلى تساؤل جديد”.
اقتباسات ومقولات هايدجر
– بتقبّلي الموتَ في حياتي واعترافي به ومواجهته مباشرة، فإنني أحرّر نفسي من قلق الموت وحقارة الحياة، وهنا فقط أصير حرًا في أن أكون نفسي.
– أعلى مراتب الوجود؛ أن يكون الإنسان مفكرًا حريصًا على استقلال الرأي والإرادة، حريصا على كرامته ونبل الوجود ذاته.
– الفلسفةُ بعينها هي، على ما هي عليه في حد ذاتها، مُلحِدةٌ حين تدركُ ذاتها إدراكًا جذريًا.
– وحده الإله، القادر على إنقاذنا.
وفاة مارتن هايدجر
توفي مارتن هايدجر في مدينة فريبورج بألمانيا، في 26 مايو 1976م، عن عمر يناهز 87 عامًا. ودُفين إلى جوار والديه في مقبرة مسكيرخ، حيث مسقط رأسه.
مصادر
- أصل العمل الفني، مارتن هايدجر، ت. د. أبو العيد دودو، منشورات الجمل، ألمانيا، 2003م.