كثيرًا ما نسمع مصطلح الأمن القومي في سياقات مختلفة وبمعانٍ متنوعة. في الماضي، كان هذا المصطلح يُستخدم للتعبير عن التحرّر من التدخل الأجنبي أو التأثير – العسكري أو الاقتصادي أو السياسي- في الشؤون الداخلية. وكما نرى فهذا المعنى يركز في المقام الأول على الأمن المادي من الغزو العسكري. أما في الواقع المعاصر، فلم يعد الأمن القومي يقتصر على الدفاع عن أمن وسلامة الوطن، ولكنه امتدّ أيضًا إلى حماية مصالحه، سواءً كانت سياسية أو اقتصادية. في السطور التالية نعرض لأهم الأفكار الرئيسة التي احتواها كتاب “الأمن والأمن القومي: مقاربات نظرية”، للدكتور علي عباس مراد أستاذ العلوم السياسية بجامعة بغداد بالعراق.
فكرة كتاب الأمن القومي
مثّلت أحداث 11 سبتمبر أهمية كبيرة فيما يتعلق بالأمن عمومًا (بما في ذلك الأمن القومي) وما يرتبط به من قضايا، فتنوعت المصادر وتعددت الأساليب التي يمكن من خلالها تهديد أمن الدول وسلامة المجتمعات، وبرز الوجه السلبي للعولمة وسياساتها، وارتفعت خطورة التهديدات الأمنية بعد ظهور أسلحة الدمار الشامل الكيميائية والبيولوجية وغيرها.
في سياق متصل، تبين أن هناك خللاً في تصور مفهوم الأمن وما يتعلق به من قضايا وأبعاد، فلم يعد مقتصرًا على الجوانب العسكرية فقط. كما أنه ليس مفهومًا جزئيًا، وعلى هذا بدأت مفاهيم أخرى تتبلور مثل: الأمن الإقليمي والأمن الدولي والأمن العالمي، ومن ثَمّ فقد حاول الكاتب في هذا الكتاب أن يؤسس من الناحية المفاهيمية للأمن بشكل عام والأمن القومي بشكل خاص، ويضع تصورًا لمحدّدات الأمن القومي والمفاهيم المقاربة له، وعلاقته بعدد من القضايا ذات الصلة.
مفهوم وخصائص الأمن القومي
الأمن بمعناه العام يشير إلى “السلام والطمأنينة وديمومة مظاهر الحياة واستمرار مقوماتها وشروطها، بعيدًا عن عوامل التهديد ومصادر الخطر”، وبالتالي فغياب الأمن يعني التهديد ووجود أخطار مستمرة. وقد تناول الفلاسفة والمفكرون مفهوم الأمن من قديم الأزل، والتهديدات التي قد تتعرض لها الدول. وانعكست التطورات الاجتماعية والسياسية – والتي آلت في النهاية لظهور الدولة القومية بصورتها المعاصرة- على تغيّر وتطور مفهوم الأمن استجابةً لهذه التطورات، وصارت الدولة الفاعل الأبرز والأقوى والأكثر تأثيرًا في صياغة وتطبيق الأمن القومي وسياساته، وصار الأمن المطلب الأول للوحدات الدولية (الدول) في النظام الدولي، مع التأكيد على أن تصور هذه الدول للأمن القومي وكيفية تطبيقه على أرض الواقع يتفاوت تفاوتًا كبيرًا، بل ويتضارب أحيانًا.
ثمة خصائص عامة يتميز بها مفهوم الأمن القومي؛ منها “التركيب” لكون الأمن القومي مفهوم مركب ومعقد يتداخل فيه القيم والنظرية والسياسات العملية، وله بعدان داخلي وخارجي، ومنها “الشمول” لكونه يشمل جميع أوجه الحياة الإنسانية كلها، ومنها الثبات فهو ليس مفهومًا هامشيًا يمكن تنحيته، فحتى لو تغيرت القيم أو السياسات التي تتبناها الدول يظل الأمن مطلبًا لا يمكن التنازل عنه، وفي الوقت نفسه هناك تنوع في طرق صياغة وتطبيق هذا المفهوم.
المحددات الداخلية والخارجية للأمن القومي
هناك محددات تساهم في تشكيل وصياغة الأمن القومي؛ وهي نوعان داخلية وخارجية، ويمكن سردها كما يلي:
المحددات الداخلية
- النظام العقائدي القيمي الاجتماعي: الذي يتبناه المجتمع ويعتمد عليه في تحديد معاييره الفكرية والسلوكية، وهو ما يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في صياغة مفهوم الأمن.
- التجارب والخبرات التاريخية: الخبرات التاريخية والخبرات المكتسبة تنعكس على جوانب الحياة، لاسيما السياسية والاجتماعية، فالدولة التي تعرضت لتدخلات خارجية لعشرات السنين ستختلف رؤيتها للأمن القومي عن الدولة التي ظلت لعشرات السنين لا تتعرض لهذا النوع من التدخلات. والدولة التي عانت من ويلات الحروب الأهلية ستتباين رؤيتها للأمن القومي عن الدولة التي تعيش منذ أمد بعيد في سِلمٍ أهلي وسلامٍ اجتماعي.
- القدرات المتاحة: تحدد الإمكانات والموارد المادية والمعنوية والبشرية والتقنية والجغرافية والسياسية والاقتصادية بشكل كبير سياسات الأمن القومي التي تتبناه الدولة.
- طبيعة النظام السياسي: فالجانب الأهم من صياغة أولويات وسياسات الأمن القومي يقع على النظام السياسي، بل يكاد يحتكره ولا يسمح لأي أطراف داخلية أو خارجية بالتدخل فيه.
- البيئة المجتمعية: تمتلك القوى السياسية والاجتماعية الناشطة في إطار الدولة، القدرة على التأثير في سياسات النظام السياسي فيما يتعلق بسياسات الأمن القومي.
المحددات الخارجية
هناك العديد من المحددات التي تؤثر على تشكيل مفهوم الأمن القومي ويكون مصدرها البيئة الخارجية للدولة، مثل: المنظمات الدولية، والنسق الدولي السائد، وقضايا الأمن الدولي، وكيف تتداخل وتتدخّل في صياغة الأمن القومي للدول.
المفاهيم المقاربة من الأمن القومي
هناك عدة مفاهيم تتقاطع مع مفهوم الأمن القومي، من أهمها:
الأمن الإقليمي
ينطوي هذا المفهوم على مضمون مركب جغرافي وسياسي في آن واحد، فقد تتبنى الدول التي تشكّل إقليمًا جغرافيًا مميزًا مفهومًا موحدًا لأمنها الإقليمي.
الأمن الجماعي
ارتبط ظهور هذا المفهوم بالنسق ثنائي القطبية والحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ويعني مسئولية جميع دول منطقة معينة عن حماية أمن تلك المنطقة، والتزامها بالتصدي لأي عدوان تتعرض له دولها، منفردة أو مجتمعة، وتنظيم نشاطاتها الجماعية، وبشكل خاص العسكرية منها، واستخدامها لردع المعتدي.
الأمن الدولي
هو مفهوم له دلالتان؛ الأول: أمن الوحدات السياسية كلها في النظام الدولي، أي جميع الدول بلا استثناء، والثاني: يرتبط بصورة النظام الرأسمالي سواء في نمطه الاستعماري القديم، أو في ظل سياسات العولمة الحالية.
الأمن العالمي
هو مفهوم يتقارب ويتقاطع مع مفهوم الأمن الدولي، لكن الفارق الجوهري بينهما أن الأمن العالمي لا يقتصر على أمن الدول فقط، بل يتسع ليشمل المنظمات الدولية والإقليمية، الحكومية وغير الحكومية، والشركات والمصالح الاقتصادية عبر القومية.
الأمن القومي والسياسة الخارجية
السياسة الخارجية هي برنامج عمل الدولة في المجال الخارجي، وهي امتداد للسياسات الداخلية، وبالتالي هي تجسيد وامتداد للأمن القومي وسياساته من الناحية العملية. وبذلك تكون السياسة الخارجية أداةً لحماية الأمن القومي، وأي تغير في منظور الأمن القومي سينعكس ولابد على السياسة الخارجية للدولة، فاتساع مفهوم الأمن القومي وتزايد متطلباته وشروطه يستتبع بالضرورة اتساعًا وتزايدًا مقابلين وموزايين في أهداف السياستين الداخلية والخارجية.
أهمية المعلومات بالنسبة إلى الأمن القومي
صارت المعرفة وفقًا لألفين توفلر – صاحب كتاب “تحول السلطة”- أهم من كلٍ من القوة والثروة، فالمعرفة أساس لوجود كل منهما – أي القوة والثروة- واستمرارها، وهي قادرة كذلك على مضاعفة وتحسين نوعية وفاعلية المتاح منهما. كذلك من سمات المعرفة أنها تقلّل حاجةَ مستخدمِها إلى المصادر الأخرى للقوة إلى الحد الأدنى، فكثير المعرفة يجعلك أكثر تأثيرًا حتى لو بقليل من القوة والثروة، وهكذا كلما ازدادت المعرفة، رفَعَت من كفاءة وقدرات الثروة والقوة.
بناءً على ما سبق، فقد صار الحصول على المعلومات غايةً لابد من إدراكها، فعمليات اتخاذ القرار لابد لها من معرفةٍ مستمدةٍ من معلومات، ولذلك صار لأجهزة الاستخبارات دورٌ كبيرٌ تشارك به في تحديد الأمن القومي للدول، عن طريق تزويد مؤسسات صنع القرار بالمعرفة التي تحتاجها عن البيئة الداخلية والخارجية، والنشاطات الفعلية والمحتملة، وغير ذلك من المعلومات لتكوين تصور واقعي أقرب ما يكون لما يحدث وما يُخطط له في المستقبل القريب.
معضلة الأمن والحرية
الحرية مطلب يسعى له جميع البشر، وهو حقٌ مكفولٌ لكل مواطن في النظم الديمقراطية. وفي المقابل فتحقيق الأمن والاستقرار وتحصين المجتمع أمور تندرج ضمن التهديدات المحتملة، ومن هنا نشأت عدة مشكلات، منها مشكلة “الأسبقية” أي أيهما يسبق الآخر؛ الأمن أم الحرية، وتحديد الأولوية ليس مسألة نظرية بل يترتب عليها ترتيبات وإجراءات، وكذلك مشكلة “التعارض” بين متطلبات وشروط الأمن ومتطلبات وشروط الديمقراطية، فالأمن يدعو إلى النظام والضبط وكذلك السرية والكتمان، وعلى النقيض تدعو الديمقراطية إلى الحرية والانطلاق وكذلك الشفافية والإعلان.
في الواقع، فالعلاقة بين المسألتين ليست التعارض والتضارب دائمًا وأبدًا، لأن هناك علاقة تكاملية بينهما، فالمجتمع الذي سيقدّم الأمن على الحرية ويفرض القمع سيؤول الأمر معه – غالبًا- إلى نقيض ذلك، أي ينتفض الناس بحثًا عن الحرية، الأمر الذي غالبًا ما يكون ضد الأمن. الحالة الأخرى هي التي تقدم الحرية دائمًا على حساب الأمن، وهذه تؤول إلى الفوضى ويضيعان معًا، وهي معضلة تتفاوت الدول والأنظمة السياسية في مستوى التعامل معها، كما تتفاوت فيها الدولة نفسها من وقت لآخر، فأحيانًا يُقدّم الأمن وأحيانًا تُقدّم الحرية.
الأمن القومي العربي
قبل الخاتمة، تناول الكاتب مفهوم الأمن القومي العربي، والإشكاليات التي تواجه هذا المفهوم في العصر الحالي نتيجة غياب الوحدة العربية، واختلاف القيم وتفاوت القدرات بين الدول العربية وبعضها، وتراجع العمل العربي المؤسسي المشترك. كما ذكر أنّ هناك ثلاثة مفاهيم في السياق العربي متعلقة بالأمن؛ أولها الأمن الوطني لكل دولة على حدة، والثاني الأمن الإقليمي الجزئي الخاص بالدول العربية التي يجمعها إقليم جغرافي محدد مثل دول الخليج أو دول المغرب العربي، وأخيرًا الثالث الأمن الإقليمي الكلي وهو أمن الدول العربية كلها، وهو ما يجعل من مفهوم “الأمن القومي العربي” مفهومًا افتراضيًا منشودًا في المستقبل، ولا وجود له تقريبًا في المرحلة الحالية، واجتهد المؤلف في نهاية الكتاب في تقديم “أنموذج تحليلي مقترح لمشكلات الأمن القومي” من الناحية النظرية.
في الأخير، فكتاب “الأمن والأمن القومي” لمؤلفه الدكتور علي عباس مراد، يُعد مرجعًا مهمًا لدراسي العلوم السياسية، وهو أشبه ما يكون بالكتاب المدرسي، يصلح للمبتدئ في هذا العلم، ولا يستغنى عنه المتخصص، لاسيما أنه حديث نسبيًا، كما أنه طرق أبوابًا قليلًا ما يطرقها باحثو العلوم السياسية في العالم العربي.