في 29 مايو عام 1453م، سقطت مدينة القسطنطينية البيزنطية في أيدي العثمانيين بقيادة السلطان محمد الثاني “محمد الفاتح“، ليكون هذا تاريخًا لانتهاء الإمبراطورية البيزنطية، وتبلورًا جديدًا لإمبراطورية العثمانيين، وإيذانًا بانتهاء العصور الوسطى الأوروبية وبداية العصر الحديث، والتوسع البحري اللاحق للقوى الأوروبية لخلق طريق تجاري جديد للتوابل، الذي كان من نتائجه المباشرة: اكتشاف أمريكا. في هذا المقال نستعرض مراجعة المسلسل الوثائقي الملحمي (Rise of Empires: Ottoman)، أو (بزوغ الإمبراطوريات: العثمانيون)، ونتعرّف على أبرز فنّياته ومميزاته.
ملحمية Rise of Empires: Ottoman
مسلسل Rise of Empires: Ottoman ملحمي قصير عن صعود الإمبراطوريات، هذا هو الموسم الأول منه، عن العثمانيين. يركّز المسلسل على شخصية السلطان العثماني محمد الثاني، الذي سيُعرف لاحقًا باسم “محمد الفاتح”؛ بسبب إنجازه التاريخي الضخم بفتح القسطنطينية، وهو الحدث التاريخي المزلزل الفارق، الذي سيتغير معه شكل العالم على مدار عدة قرون تالية، وهو الحدث الذي يستعرضه المسلسل بأبعاد وتفاصيل خارطة الصراع وأطرافها، العثمانيين والبيزنطيين، والأحلاف المتّصلة بكل منها، بل والأحلاف المتغلغلة داخل كيان كل منهما.
لم تكن معركة القسطنطينية مجرد معركة بين إمبراطوريتين (عثمانية وبيزنطية)، وإنما كانت في جوهرها صراعًا بين المسيحية والإسلام، ستحدّد نتائجه مسار التاريخ لعدة قرون. وكان محمّد الثاني أمام مهمّة شبه مستحيلة؛ هذه المدينة صمدت أمام 23 جيشًا من قبله على مرّ القرون، بما في ذلك جيش والده مراد الثاني.
لكنّ محمّد الثاني، كان مدفوعًا بحلم طفولته، وبالنبوءة القديمة “مَن يحكم القسطنطينية، يحكم العالَم”، ومقتديًا بالمسيرة المجيدة للإسكندر الأكبر، لذا وبالرغم من صِغر سنه عندما تولّى عرش السلطنة خلفًا لأبيه، عزم على أن يحقّق ما فشل فيه كل من سبقوه، سيفتح القسطنطينية ويجلس على عرشها.
كعادة الأعمال الدرامية الوثائقية الملحمية، يتم دمج التعليقات والمداخلات العِلمية المتخصّصة من قِبَل أساتذة التاريخ والمتخصّصين، مع السياق الدرامي الذي يصوّر الأحداث، ابتداءً من ذكريات ماضي محمّد الثاني، ذلك الشاب الذكيّ الطموح العنيد الجريء المعتدّ بذاته، مرورًا بالمعارك وخرائط الجرافيك المتحرّكة التي تصوّر المعارك والاستراتيجيات والتكتيكات البرية والبحرية التي جرت أثناء هذه الحملة العظيمة، والتي ركّز عليها المسلسل بدرجة أكبر مما سواها.
ما زاد من ملحمية العمل، هو تحرّي الموضوعية بدرجة لا بأس بها، وإظهار مستوىً خفيٍ من المؤامرات داخل البلاط هنا وهناك، وداخل طبقات السلطة و أفراد النخبة، مع تقديم شكل النظام السياسي لدى الطرفين، العثماني والبيزنطي، بشكل واضح لا يثير الغموض.
بشكلٍ لافت، لم يتورّط المسلسل فيما اعتادت نتفليكس تقديمه في إنتاجاتها، حتى التاريخية منها؛ وفي المقابل يكاد يقترب من كونه توثيقًا تاريخيًا خالصًا، بسبب اعتماده على مؤرخين متخصصين شاركوا في الظهور والتعليق على أحداث العمل وتفاصيل ومنطق القرارات والمواقف.
المسلسل جرعة ملحمية مكثفة، تكاد تضمن أن تُرضي كلّ مَن سيشاهده أيًا كان توجّهه وموقفه، ومستوى التمثيل والتصوير والموسيقى والديكورات والمناظر، غايةً في الجمال.
محمد الفاتح الإنسان
أجمل ما في العمل، أنك ترى السلطان محمد الفاتح كإنسانٍ من لحمٍ ودم، لا كأيقونة أو شخصية أسطورية، وسيمكنك بسلاسة أن تتعرّف وتتفهّم مكابدته ومدى طموحه، وكيف تحمّل تقلّبات ما جرى في حياته، وهو الذي عُرفَ بأنه وُلِدَ ليكون سُلطانًا. وبالمثل، الممثل الذي أدّى دوره، يُشعرك حقًا وكأنه وُلِدَ ليؤدّي هذا الدّور. سيصعب أن تتصوّر بعدها صورةً ذهنية للسلطان محمّد الفاتح دون صورة هذا الممثل في أدائه المتقن للدور.
في المسلسل، نرى استدعاءات من طفولة محمد الفاتح، تكشف لنا عن المعلومات الأساسية في تشكيله شخصيته وتكوينه،سواء عندما فقد أمه في سنٍ مبكرة ونشأ تحت ضغط تقاليد التربية داخل القصر، أو عندما انتقل والده السلطان مراد الثاني إلى أدرنة، أو عندما تخلّى له والده عن العرش ثم استعادته منه، أو حتى عندما وجد نفسه في مهمة صعبة لتولّي إمارة السنجق.
هذه الجوانب من شخصية محمد الفاتح في طفولته ومراهقته وشبابه، لم يسبق أن استعرضها أي إنتاج درامي من قبل بهذا التعمّق والتفصيل والمرجعية العلمية من متخصصين في التاريخ.
لم تكن شخصية محمد الفاتح فقط هي التي ظهرت بهذه الحيوية، وإنما امتدّ هذا إلى الشخصيات التاريخية الأخرى؛ الملك البيزنطي قسطنطين الحادي عشر، والوزير العثماني جاندارلي خليل باشا، والمرتزق الإيطالي جيوفاني جوستينياني، الذي قاتل من أجل البيزنطيين.
حتى التفاصيل الخاصة بجنود الإنكشارية الأسطورية (وهي فيالق النخبة العثمانية المقاتلة)، أو جنود الباتشي بازوق (الجنود غير النظاميين للجيش العثماني) ظهرت في ذروة الحيوية.
التعليق الصوتي
من الأمور اللافتة في المسلسل، التعليق الصوتي الذي كان لابدّ أن يكون على نفس الدرجة من الملحمية العامة للمسلسل. لذا جاء بأداء كل من: البريطاني السير تشارلز دانس (المعروف بدور تايون لانستر في مسلسل لعبة العروش)، والتركي هاليت أرجنش (المعروف بدور السلطان سليمان القانوني في مسلسل حريم السلطان).
إضافة إلى ذلك، كانت المشاركات العلمية المتخصصة على درجةٍ من الملحمية والإثارة والأداء اللافت الذي يعلق في الذهن. وقد شارك في هذا السياق كل مِن:
- لارس براونورث، وهو مؤلف متخصص في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وفي العلوم.
- روجر كراولي، وهو مؤرخ ومؤلف بريطاني اشتهر بمؤلفاته في التاريخ البحري والتاريخ المتوسطي.
- جايسون جودوين، وهو مؤرخ وكاتب بريطاني.
- ماريوس فيليبيدس، وهو مؤرخ أمريكي وأستاذ في جامعة ماساتشوستس أمهرست.
- مايكل تالبوت، وهو كاتب وروائي أمريكي معروف.
- جلال شنجور، وهو هو جيولوجي تركي، وأستاذ في جامعة اسطنبول التقنية.
المؤثرات البصرية
الأحداث تدور في العام 1453م، وما قبله. هنا قام فريق العمل ببناء مدينة القسطنطينية رقميًا بالكامل. كما قاموا بتصميم كنيسة أيا صوفيا، وهي كاتدرائية يونانية أرثوذكسية عتيقة، كانت ذات يوم هي المبنى الأكبر في العالم بقبّتها الضخمة التي ما تزال أعجوبة هندسية، قبل أن تتحوّل إلى مسجدٍ عثمانيٍ، ثم إلى متحفٍ أثريٍ، ثم إلى مسجدٍ تركيٍ مجددًا في 2020م.
أيضًا، تصميم معركة بحرية هائلة تصوّر 30 سفنية عثمانية تهاجم 3 سفن من جنوة، بمحاكاة دقيقة جديدة لكافة تفاصيل المعارك في البيئة البحرية، وكذلك المعارك البرية التي تضمّنت مواجهات هائلة بين الجيشين العثماني والبيزنطي، وعملية تقييد القرن الذهبي بالسلاسل ونقل السفن إليه، وهي المشاهد التي كانت ستكون مكلّفة للغاية لو لَم يتم تصميمها بواسطة تقنيات CG.
بين التاريخ والخرافة
أبرز ما نبحث عنه في الأعمال الوثائقية، أن نرى الحقائق كما هي أو كما كانت. في هذا المسلسل، نرى الكثير من الحقائق التاريخية، لكننا إلى جانب ذلك نرى بعض الأساطير، أو الأحداث التي لا يمكن توثيقها بطبيعة الحال، وهو ما قد يتسبب في خدش مصداقية المسلسل أو تقويضها لدى بعض المشاهدين.
على سبيل المثال، قبل أن تستولي القوات العثمانية على المدينة، ظهر نور أبيض فوق قبّة أيا صوفيا، وفارقها صاعدًا نحو السماء. لم تذكر المصادر التاريخية دليلاً تاريخيًا موثوقًا عن هذه الحادثة، لكن الإشاعات كانت منتشرة بين البيزنطيين بهذه الحادثة، وقدّمها المسلسل بشكل موثوق.
أيضًا، مسألة استعانة السلطان محمد الفاتح بالمنجّمين، واعتماده عليهم في اتخاذه لقرار الهجوم الحاسم، وتشكّل يقينه وثقته بأنه سيستولي على المدينة عندما في الليلة التي يحدث فيها خسوف كامل للقمر، كل هذا يصبّ في خانة الخرافة أكثر مما سواها، كما يقدح في الذكاء الاستراتيجي لمحمد الفاتح، وفوق كل هذا: لا يحظى بإجماع المصادر التاريخية.
ملحوظات أخرى على العمل
من بين ملاحظات أخرى متنوّعة على العمل، يمكننا أن نذكر ما يلي:
- لم يُظهر المسلسل شخصية “آق شمس الدين”، وهو أبرز مرشدي السلطان محمد الفاتح ، ولم يفارقه في أية لحظة في فتح القسطنينية.
- إعادة استخدام نفس المشاهد المبارزات، وانهيارات الجدران، وضربات المدافع، عدّة مرات بشكل ملحوظ.
- يُظهر المسلسل أن محمد الفاتح قطع رأس الرسولين اللذين أرسلهما قسطنطين الحادي عشر. إلا أنه لا يوجد دليل تاريخي على مثل هذه الواقعة.