في أوج شبابه، أبحر الملك القديس لويس التاسع بالأسطول الفرنسي من ميناء مارسيليا باتجاه قبرص، التي سيلاقيه فيها جيش الممالك الصليبية؛ تمهيدًا لإطلاق حملة صليبية جديدة تغزو بلاد العالَم الإسلامي. سريعًا، استقرّ رأي لويس التاسع وقادته العسكريين على البدء بغزو مصر فور انتهاء شتاء 1249م، لأنها العقدة الأضعف في سلسلة دفاعات العالم الإسلامي. لم يكن لويس التاسع يعلم أنّ هذه الحملة الصليبية السابعة ستنتهي به مهزومًا أسيرًا يتفاوض الأطراف المتحاربون على قيمة فديته.
الطريق إلى الحملة الصليبية السابعة
قبيل عام 1245م، سقط بيت المقدس في أيدي الخوارزمية الذين تسلّم منهم الملك الصالح نجم الدين أيوب السُلطة على المدينة، مستعيدًا سيطرة الأيوبيين على بيت المقدس. على إثر هذا الحادث المفجع للكنيسة الأوروبية، جرت استعدادات بالتنسيق بين البابا إنوسنت الرابع، وبين الملك الفرنسي الشاب المؤمن لويس التاسع، لإطلاق الحملة الصليبية السابعة بهدف رئيسي يتمثل في استرداد بيت المقدس، وإلى جانب ذلك محاولة تكوين تحالف مسيحي مغولي، لتطويق العالم الإسلامي والقضاء عليه.
فشلت محاولات لويس التاسع في إقناع المغول بالتحالف، أكثر من مرّة، فعزم على أن يمضي في مخططه دون المغول. وهكذا أبحر الأسطول الصليبي من ميناء مارسيليا في خريف عام 1248م (646هـ)، متوجهًا إلى قبرص، حيث يجري تجهيز المؤونة، وحيث ستكون نقطة تجمّع والتقاء جيوش الممالك المسيحية المشتركة في الحملة.
بالنسبة إلى لويس التاسع، كانت مصر هي النقطة الأضعف في سلسلة تحصينات دول العالَم الإسلامي، فاتفق مع قادته العسكريين سريعًا على أن تكون هي نقطة الغزو الأولى. فقط عليهم أن ينتظروا مرور الشتاء القارس، وينطلقوا بعدها.
على الجهة المقابلة، وخلال عدّة أشهر، وصلت الأنباء إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، عن قرب قدوم حملة صليبية جديدة بقيادة لويس التاسع، هدفها احتلال مصر. تشير بعض المصادر إلى أن الإمبراطور فريدريك الثاني – صديق الأيوبيين والعدوّ اللدود للبابا- هو مَن أرسل مخبرًا سريًا إلى الملك الصالح أيوب في دمشق يخبره بالمخطّط الصليبي.
كان نجم الدين أيوب مريضًا، إلا أنه فور عِلمه بالخبر تحرّك سريعًا من الشام إلى مصر كي يعيد تنظيم وسائل الدفاع ويقوّي تحصيناته، وأولى ثغر دمياط عنايةً خاصّة.
صدمة سقوط دمياط
بينما احتاجت الحملة الصليبية الخامسة إلى 14 شهرًا من المواجهات الشرسة كي يتمكنّوا من دخول دمياط، لم يستغرق الأمر هذه المرة في الحملة الصليبية السابعة سوى مقدار الوقت الذي يحتاجه الجنود لعبور الجسر المؤدّي إلى المدينة الخالية عن بكرة أبيها.
قبلها بشهر، في مايو 1249م، أقلعت السفن الصليبية تجاه الشواطئ المصرية. وبعد انقلاب البحر عليهم أثناء رحلتهم وتشتت سفنهم، وصلوا قبالة دمياط في 4 يونيو 1249م (20 صفر 647هـ)،وقاد لويس التاسع بنفسه طليعة مَن وصل معه من الجنود، وواجهوا حامية المدينة، إلا أنّ قائدهم أعطى أوامره الغريبة بالانسحاب، وترك أهالي دمياط يواجهون مصيرهم المجهول.
لما رأى الأهالى فرار الجنود، غادروا المدينة سريعًا عن بكرة أبيهم، وهكذا سقطت دمياط دون قتال. وفور أن دخلها جنود الحملة الصليبية، أقاموا عددًا كبيرًا من التحصينات التي تحمي تواجدهم داخل المدينة.
كان خبر سقوط المدينة مفجعًا على السلطان المريض، خاصةً أنه بذل جهودًا كبيرةً في تحصينها وتأمينها؛ لذا قرّر إعدام عددٍ من الفرسان الهاربين عقابًا لهم، ثم أصدر أوامره السريعة بنقل معسكر جيشه إلى مدينة المنصورة القريبة التي لم يتجاوز عمرها 30 عامًا.
تسارعت الأحداث المثيرة على إثر هذه الخطوة، فاندلعت حرب عصابات داخل مدينة المنصورة ضد قوات الغزو الصليبية التي حاولت اقتحام المدينة، وسقط عدد كبير من الجنود الصليبيين في الأسر، وتم نقلهم إلى القاهرة لتسير بهم المواكب تستعرضهم أمام الجماهير. وخلال وقت وجيز، وصلت قوات دعمٍ من بلاد الشام لمساندة الجيش الأيوبي في مقاومته ضد توغّل الحملة الصليبية.
المقاومة ضد توغّل الحملة الصليبية
وسط هذه الأحداث، توفّي السلطان المريض الصالح نجم الدين أيوب بعد طول صراعٍ مع المرض، وفاضت روحه يوم الاثنين 20 نوفمبر 1249م (14 شعبان 647هـ). وتفاديًا للتأثير السلبي لهذا الخبر على معنويات الجيش الأيوبي، أخفت زوجته شجرة الدرّ الخبر، وأرسلت إلى توران شاه، ابن السلطان، تستدعيه من إمارته في العراق.
في ميدان المواجهات، اشتدت المقاومة المصرية ضد القوات الصليبية. وبعد عدة تطورات متلاحقة كانت طليعة القوات الصليبية تتقدم نحو مدينة المنصورة في سرعة، ولكن الأمير بيبرس البندقداري (الذي صار لاحقًا: السلطان الظاهر بيبرس) كان قد نظم الدفاع عن المدينة بشكل جيد. وانقشع غبار المعركة عن عدد كبير من قتلى الصليبيين بينهم عدد كبير من النبلاء. ولم ينجح في الهرب سوى عدد قليل من الفرسان هربوا على أقدامهم تجاه النيل ليلقوا حتفهم غرقا في مياهه.
أما الجيش الصليبي بقيادة لويس التاسع، فكان لا يزال في الطريق لا يعلم بما جرى للطليعة الصليبية التي حاولت اقتحام المنصورة في فبراير 1250م (4 ذي القعدة 647هـ).
كان القدر يخبّئ ترتيبات مختلفة للويس التاسع، فخلال شهرين من تلك الواقعة، اندلعت معركة طاحنة قرب فارسكور قضت على الجيش الصليبي تمامًا، وتم أسر لويس التاسع نفسه في قرية منية عبد الله شمالي المنصورة، ثم نقل إلى دار ابن لقمان القاضي بالمنصورة، حيث بقيَ فيها سجينا فترة من الزمان، تتفاوض الأطراف على قيمة فديته، إلى أن أفرج عنه لقاء فدية كبيرة، ومقابل جلاء الحملة الصليبية عن دمياط.
ما بعد الحملة الصليبية السابعة
كانت الحملة الصليبية السابعة آخر جهد صليبي كبير ضد العالم الإسلامي وضد مصر بالتحديد، لكنه لم يكن آخر الجهود الصليبية متنوّعة الحجم على أي حال. وقد اختلفت هذه الحملة عن غيرها من الحملات السابقة. وفي الواقع أن قيادة لويس لهذه الحملة كانت استثناءً بين الاتجاهات السياسية الأوروبية؛ إذ لم يكن زعماء أوروبا القرن 13 الميلادي متحمسين لشن حروب صليبية جديدة ضد المسلمين، لأنهم كانوا منغمسين في مشكلاتهم الداخلية من ناحية، ولأنهم أدركوا عدم إمكانية فرض الوجود الصليبي بالقوة إلى الأبد.
ومهما كانت تصريحاتهم العلنية التي أظهروا به حماستهم للحركة الصليبية فالواقع أن الحملات الصليبية لم تكن تحتل سوى نطاق هامشي من اهتماماتهم. لقد أخذ كثيرون من زعماء أوروبا شارة الصليب حقا في غضون القرنين 12 و 13 الميلاديين، إلا أن من رحل منهم بالفعل إلى الشرق العربي الإسلامي كانوا قلة. ومن اللافت أن الملوك الذين أخذوا شارة الصليب مأخذ الجد، وأوفوا بقسمهم الصليبي كانوا هم أسوأ القادة العسكريين في أوروبا، وكان لويس التاسع واحدًا منهم.
بعد هذه الحملة، أخذ لويس التاسع يجول فيما بين بلاد الشام إلى سواحل شمال أفريقيا محاولا أن يحقق حلمه الصليبي، إلى أن وافته المنيّة في أحد المعسكرات في تونس، في 25 أغسطس 1270م؛ بسبب إصابته بداء الدوسنتاريا، وداء الإسقربوط “النقص الحاد في فيتامين سي”.
على الجانب المقابل، جرت عدة تطورات سياسية أفرزت في النهاية دولة سلاطين المماليك والشام لتقوم بدورها التاريخي في القضاء على الوجود الصليبي تحت سيطرتها. وتدريجيًا، أخذ الوجود الصليبي يتلاشى.
كان أبرز هذه الجهود، ما قام به السلطان الظاهر بيبرس بدءًا من عام 1261م (659هـ)، حيث دخل في عمليات حربية واسعة ضد إمارات الساحل الصليبية فاستولى على مدن قيسارية، وأرسوف، ثم يافا، ثم حصن شقيف أرنون المنيع.
كانت سياسة بيبرس تقوم على الإفادة من منازعات الصليبيين الداخلية. وبعد مناورة كبيرة قامت بها جيوش هذا السلطان الداهية فوجئ الصليبيون بالقوات المصرية والشامية تحاصر إنطاكية، ثم تستولي عليها سنة 1268م (666هـ)،واستولى بيبرس على المدينة التي ظلت رهينة الأسر الصليبي على مدى أكثر من 150 عامًا. وكان ذلك أكبر انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ أيام حطين واسترداد بيت المقدس. وكان فرح المسلمين بهذا الفتح عظيمًا.
مصادر
- ماهية الحروب الصليبية، قاسم عبده قاسم، عالم المعرفة، الكويت، 1990م.
- تاريخ الحروب الصليبية، أنتوني بردج، ترجمة: أحمد غسان سبانو ونبيل الجرودي، دار قتيبة للطباعة والنشر، دمشق، 2014م.