تذخر كتب الأدب العربي بحكايات عن العشق والعاشقين، الذين تبادلوا مشاعر الحب والغرام، إلا أن سردية الحب والغرم لم تنته كما أرادا الحبيبان، فليس كل ما يتمنى المحبان يتحقق، وفي هذا التقرير نتعرض لأربعة من أبرز قصص الحب والهيام في الأدبي العربي.
اقرأ أيضًا: رسائل عيد الحب « الفالنتين » لعام 2021
1- توبة وليلى
توبة بن الحمير بن الربيعة وقيل توبة بن الحمير بن حزم، وأحب توبة ليلى الأخيلية، واشتهر كل منهما بحبه للأخر، وسيطر الهيام على عقل توبة وقلبه، فكان يزورها مرة بعد مرة، ويقول فيها الشعر، وقد حُكي عن جمال “ليلى”، وحُكي كذلك عن فصاحتها وحسن شعرها.
حاول توبة أن يخطب ليلى، إلا ان أباه رفض، وزوجها إلى غيره، فلم يمنع زواجها توبة من معاودة زيارتها، فعاتبه أخوها وأبوها فلم يُعتب، وشكوه إلى قومه فلم يُقلع، فشكوه إلى السلطان فأهدر دمه إن أتاهم[1].
في إحدى المرات قدم توبة لزيارة حبيبته ليلى، وكان اعتاد منها أن يقابلها “مبرقعة” أي تغطي وجهها، فلما وجدها سافرة الوجه علم أن هناك خطر، فسارع إلى الهروب، وقد قُتل في النهاية على يد رجل من بني عوف، قيل أن توبة سبق وأن قتل أباه.
2- جميل بثينة
اسمه جميل بن عبد الله بن معمر العذري، أحب بثينة بنت حبأ بن حُنّ بن ربيعة، وهي تعد ابنة عمه فهما يلتقيان في “حنّ” من ربيعة، وكانا يقيمان في وادي القرى، وهو موضع قريب من المدينة المنورة.
قيل أن جميل أحب بثينة وهو غلام صغير، وهي لا زالت جارية، ويُروى في ذلك خبرًا طريفًا، أن جميلًا كان يرعى إبله، حتى أتى وادٍ يُسمى “بغيض”، فجلس جميل وأطلق الإبل، فأقبلت بثينة وجارة لها وقابلتا الإبل، فضربتا من بعضًا من إبله ضربًا مبرحًا، فسبها جميل، فردت عليه سبابه، فأعجب جميل بسبابها وأحبها[2]، وفي ذلك يقول:
وأولُ ما قادَ المــــحبة بيننا***بوادي بغيضٍ يا بثين سِبابُ
وقلنا لها قولا فجاءت بمثله***لكل كــلام يا بثينَ جواب
وعلى الرغم أن بثينة لم تكن أول حب لجميل، إلا أنه تعلق بها دون غيرها، فأخذ يقول الأشعار فيها، يذكر اسمها مرة ويُكني في الأخرى، حتى اشتهر حبه لها، ولُقب بـ “جميل بثينة”، فلما أراد أن يخطبها من أبيها لاقى منه الرفض، وفضل أن يزوجها من فتى يُسمى “نبيه الأسود”، وفيه قال جميل:
لَقَد أَنكَحوا جَهلاً نُبَيهاً ظَعينَةً***لَطيفَةَ طَيِّ الكَشحِ ذاتَ شَوىً خَدلِ
غير أن جميل لم يترك بثينة بعد زواجها، وحاول أهلها منعه منها، ووصل بهم الحال أن أشاعوا أن جميل يتبع أَمة لهم ليشنعوا عليه[3]، فغضب جميل وقرر أن ينتقم ولو كلفه هذا أن يسيء إلى حبيبته، فقابلها في مكان اسمه “برقاء”، وجلس معاها وطلب منها أن تخلد إلى النوم، وبعدما نامت تركها بجوار راحلته ، وفي ذلك يقول:
ومن كان في حبي بُثينة يَمتري*** فبرقاءُ ذي ضالٍ عليّ شهيدُ
وقد استمر الحب والهيام بينهما بين شد وجذب، إلى أن يأس جميل ورحل إلى مصر، حتى مرض فمات، وكان قد أوصى رجلًا بأن يبلغ بثينة إذا مات، فلما وصل خبر وفاته إليها، أُغشي عليها ساعة، وقامت فأنشدت:
وإنَّ سُلـُوِّي عن جميلٍ لساعةٌ *** منَ الدهرِ ما حانتْ ولا حان حينُها
سواءٌ علينا يا جميلُ بنُ مَعْمَرٍ *** إذا متَّ بأساءُ الحياة ولينُها
3- قيس وليلى
في حي بني عامر بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وقعت تلك تعد قصة غرام قيس بن الملوح أو مجنون ليلى من أشهر قصص الحب والغرام في الأدب العربي، وكانت ليلى بارعة الجمال، قيل في وصفها “كانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسمًا وعقلًا وأفضلهن أدبًا وأملحهن شكلًا”، ولما سُئل قيس عما أعحبه في ليلى، أجاب[4]: ” كـل شـئ رأیتـه وسـمعته منهـا أعجبني، والله ما رأیت شیئاً منها قـط إلا كـان فـي عینـي حسـناً وبقلبـي علقـاً، ولقـد جهـدت أن يقبح منها عندي شئ أو یسـمج أو یعـاب لأسـلو عنهـا فلـم أجـده فقلـن لـه: فصـفها لنـا، فأنشأ يقول:
بَيْضَاءُ باكَرَهَا النَّعِيمُ كَأنَّهَا*** قَمَرٌ تَوَسَّطَ جُنْحُ لَيْلٍ أسْوَدِ
موسومة بالحسن ذات حواسد*** إن الحسان مظنة للحسد
وتَرى مَدَامِعَهَا تَرَقْرَقُ مُقْلَة*** سَوْدَاءَ تَرْغَبُ عَنْ سَوَادِ الإِثمِدِ
خود إذا كثر الكلام تعوذت*** بحمى الحياء وإن تكلم تقصد
هيمن الحب والهيام على فؤاد قيس، فكان يقضي نهاره كله في صحبتها، يحادثها ويسامرها، لكنه ما إن يفارقها حتى يشتد شوقه لها، فيقول متحسرًا:
نَهاري نَهارُ الناسِ حَتّى إِذا بَدا***لِيَ اللَيلُ هَزَّتني إِلَيكِ المَضاجِعُ
أُقَضّي نَهاري بِالحَديثِ وَبِالمُنى***وَيَجمَعُني وَالهَمَّ بِاللَيلِ جامِعُ
وهذه المعاناة التي يصفها وقد كان يلاقيها ويجالسها، فلما اشتهر أمرهما ومنعت منه مرض وصار رقيد الفراش حتى أشفقت عليه أمه، وذهبت إلى ليلى تترجاها أن تزوره فيُشفى برؤيتها، فعادته ليلى وحاولت أن تخفف عنه،. فبكى قيس وأنشأ يقول:
قالت جننت على أيشٍ فقلت لها *** الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه*** وإنما يصرع المجنون في الحين
شُفي قيس لكنه صار أشبه بالمجنون، لا يدري ما يحدث حوله، يجالس القوم بجسده، لكنه قلبه معلق بحبيبته، وحاول أبواه أن يخففا عنه ولم يفلحا، وزاد من الطين بلة رفض أبي ليلى زواجها من قيس، وتزوجت من من ورد بن محمد الثقفي، وهام قيس على وجهه، حتى وافته المنية في واد من الأودية[5].
4- ابن زيدون وولادة بنت المستكفي
قيل في وصفها أنها كانت بيضاء البشرة ذات شعر أشقر، اعتنى بها والدها الخليفة “المستكفي” فأحضر لها المعملين والمثقفين، فنشأت صاحبة مَلكة لغوية وعاطفة أدبية وصار بيتها قبلة الأدباء والشعراء، وكانت تحسن العزف على الآلات الموسيقية فهوى إليها أفئدة الشعراء من قرطبة وغير قرطبة، وكان ابن زيدون أحد أولئك الذين وقعوا في حب ولادة، غير أنه تميز عن غيره بأنها بادلته الحب والهيام.
وصف ابن زيدون أول لقاء بينهما قائلًا:
” لما قدر اللقاء، وساعد القضاء، كتبت إلىّ
ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي***فإنّي رأيت الليل أكتم للسرِّ
وَبي منك ما لو كانَ بالشمسِ لم تلح***وبالبدر لم يطلع وَبالنجم لم يسرِ
وباح كل منهما بحبه للآخر، ومكثا الليل يتبادلانه، فلما انفصل ابن زيدون عن ولادة صباحًا، أنشد قائلًا:
ودَّعَ الصَبرَ مُحِبٌّ وَدَّعَك***ذائِعٌ مِن سِرِّهِ ما اِستَودَعَك
يَقرَعُ السِنَّ عَلى أَن لَم يَكُن***زادَ في تِلكَ الخُطا إِذ شَيَّعَك
يا أَخا البَدرِ سَناءً وَسَناً***حَفِظَ اللَهُ زَماناً أَطلَعَك
إِن يَطُل بَعدَكَ لَيلي فَلَكَمبِتُّ أَشكو قِصَرَ اللَيلِ مَعَك
غير أن الوفاق لم يدم والاتفاق لم يستمر، فقد تبدلت ولادة لابن زيدون، وتمنعت عليه، وأذاقته مرارة البعد بعد القرب، وحاول ابن زيدون التلطف إليها، وزعم أنه عبد حبها وأسير عشقها، وقيل أن سبب تبدل حال ولادة أنها ظنت أن ابن زيدون يغازل جارية لولادة اسمها “عُتبة”، فأنشدت عتابًا له:
لَو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا***لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّرِ
وَتركتَ غصناً مثمراً بجماله***وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ
ولقد علمت بأنّني بدر السما***لَكن دهيت لشقوتي بالمشتري
وقيل أن سبب هجران ولادة لابن زيدون أمر أخر، وهو أن ابن زيدون نقد بيتًا لبنت المستكفي، لكنه أساء فيه وبدا وكأنه يدعو على المحبوب بدلًا من أن يدعو له، فكان ذلك سببًا لابتعادها عنه، بل وزادت على ذلك بأن استبدلته بحبيب أخر وهو الوزير أبو عامر بن عبدوس، وانتهى الأمر بأن نسب ابن عبدوس مؤامرة إلى ابن زيدون، واتُهم بالاستيلاء على عقار لبعض مواليه، وسُجن بعدما قُدم إلى المحاكمة[6].
في النهاية فقد كانت النهايات الأربعة مخالفة لما أراد أبطالها، ففي كل مرة كان الفراق والبعد هو مصير الحبيبين، وصارت مشاعر العشق والهيام وبالًا عليهما، وصارا عبرة ومثلًا لمن بعدهما، غير أن المحبين لا يعتبرون، فالاعتبار من سمات أولي الألباب، واللب قد يُذهبه الحب !
[1] ديوان توبة بن الحمير الخفاجي، تحقيق وتعليق وتقديم خليل إبراهيم العطية، مطبعة الإرشاد- بغداد، صـ6.
[2] انظر مقدمة ديوان “جميل بثينة” لبطرس البستاني، دار بيروت للطباعة والنشر، صـ6 .
[3] عباس العقاد، جميل بثينة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، صـ64
[4] زينب السيد محمد نور، قيس بن الملوح: حياته وشعره، رسالة ماجستير في الدراسات الأدبية والنقدية، جامعة أم درمان الإسلامية، صـ 73.
[5] المرجع السابق، صـ 93.
[6] لمزيد من تفاصيل قصة عشق ابن زيدون لولادة انظر: شوقي ضيف، ابن زيدون “سلسلة نوابغ الفكر العربي”، دار المعارف، ص ص 18 – 24