الديمقراطية هي شكل من أشكال النظام السياسي يقوم على حكم الأكثرية، وهو على النقيض من حكم الأقلية (على سبيل المثال الأوليجارشية أو الأرستقراطية). ما يشير إليه المصطلح تحديدًا هو محل خلاف بين العلماء والساسة. وتنعكس كثرة الأشكال التي تتخذها الديمقراطيات الحالية على وفرة المفاهيم النظرية ونماذج الديمقراطية في العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية بوجه عام، وهو ما يجعله مفهومًا متنازعًا في تفسيره[1]، ومثيرًا لجدلٍ لم ينتهِ إلى الآن.

 

معيار الديمقراطية والتحوّل الديمقراطي

في مرحلة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، سوّق كل منهما للنظام السياسي الذي يتبناه ويطبقه، وانعكس تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة على انحسار النموذج الاشتراكي الذي كان يتبناه. وفي المقابل ارتفعت أسهم النظم الديمقراطية، ومع دخول دول العالم مرحلة العولمة، كان أحد ثمراتها السياسية رواج الديمقراطية، وظهور ما يُسمى بعمليات التحول الديمقراطي، أي المرحلة الانتقالية التي يتحول فيها النظام السياسي من الديكتاتورية أو غيرها من الأنماط غير الديمقراطية إلى أن يصير نظامًا ديمقراطيًا على النمط الغربي.

الديمقراطية
التصويت في الانتخابات

 

من هنا أولى باحثو العلوم السياسية اهتمامًا واسعًا بهذه المظاهر – أي التحول الديمقراطي-، ومن أبرز الأدبيات المعنية بهذا هو كتاب “الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين” للعالم الأمريكي ذائع الصيت صامويل هنتنجتون.

 

هناك ثلاث قضايا رئيسية في الدراسة التجريبية (الأمبريقية) للديمقراطية، أولها تحديد السمات التي تفصل النظم الديمقراطية عن النظم غير الديمقراطية، وثانيها هي تصنيف تلك النظم التي تم تحديدها على أنها ديمقراطيات، وثالثها ما يتعلق بتصنيف ما يسمى بالأنظمة الهجينة، والتي ليس واضحًا كونها ديمقراطية أو غير ديمقراطية.

 

لسنا هنا بصدد الحديث عن مفهوم الديمقراطية والتعريفات المختلفة والتفسيرات المتضاربة حولها، ولكن الاهتمام هنا منصب على معيار الديمقراطية كمعيار لتصنيف النظم السياسية حول العالم، وعليه سنقسم النظم إلى ثلاثة أنماط؛ النظم الديمقراطية، والنظم غير الديمقراطية (الديكتاتورية)، وبينهما النظم الهجينة.

 

النظم الديمقراطية

يمكننا تحديد جوهر النظم الديمقراطية أو السمات العامة لهذه الأنظمة كما يلي[2]:

 

أ- حكم القانون (Rule of Law)

تستند الأنظمة الديمقراطية إلى حكم القانون، ويعد الدستور الوثيقة القانونية الأهم التي يخضع لها كل من الحاكم والمحكومين، وكل ما يتم سنه من قوانين وتشريعات تنبثق من هذا الدستور ولا يجوز أن تخالفه.

 

ب- السيادة الشعبية (Popular Sovereignty)

بدلًا من أن يكون الحكم شخصيًا أو بيد ثلة قليلة، تعمل الديمقراطية على إنشاء المؤسسات كبديل لحكم الأفراد، وهذه المؤسسات تعبّر عن الإرادة الشعبية، ومن هنا جاءت فكرة الديمقراطية التمثيلية أو النيابية، أي أن يختار المواطنون من يمثلهم وينوب عنهم في مؤسسات الحكم.

 

وفيما يلي نعرض لأبرز إيجابيات النظام النيابي، وكذلك أهم الانتقادات الموجهة إليه[3]:

 

مزايا النظام النيابي

  • النظام النيابي يعد نتاجًا لإرادة الشعب من خلال تصويتهم في الانتخابات لاختيار من ينوبهم، ويمثلهم – لفترة محدودة- في ممارسة السلطة.
  • النظام النيابي يُعد نظامًا واقعيًا، فليس من الممكن أن يشترك جميع أو حتى أغلبية مواطني دولة في ممارسة السلطة، ومن هنا تأتي واقعية النظام النيابي في جعل السلطة بيد مجموعة من الأفراد يُفترض أنها تعبر عن جموع المواطنين.
النظام النيابي
النظام النيابي

 

عيوب النظام النيابي

  • ينتهي دور المواطن بمجرد أن يعبر عن رأيه في انتخاب ممثله، ولا تتاح له الفرصة ثانية إلا بعد عدة سنوات.
  • اختزال الإرادة الشعبية بيد عدد محدود من النواب قد يُفضي إلى استغلال مناصبهم لتحقيق مصالحهم الذاتية.
  • أحيانًا يؤدي النظام الانتخابي إلى استبعاد بعض الأقليات الدينية أو العرقية، وبالتالي لا يعبر البرلمان المنتخب على كافة أطياف المجتمع.

 

ج- تمكين المواطنين من المشاركة السياسية

أي مشاركة المواطنين في ممارسة مظاهر السلطة في كافة المستويات السياسية، إعمالًا لمبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، وبناءً عليه يظهر مبدأ المساواة السياسية وتكافؤ فرص المشاركة في الحياة السياسية لكافة فئات المجتمع.

 

د- المواطنة

تعني الديمقراطية تنظيم العلاقة بين السلطة والأفراد والجماعات على أساس تمتع كل فئات المجتمع بمجموعة من الحقوق والحريات والالتزام بجملة من الواجبات؛ أي إعمال مبدأ المساواة السياسية بين الجميع، وتساوي فرص المشاركة السياسية لدى الجميع.

 

النظم الهجينة

يمكن وصف النظام الهجين على أنه يحتفظ بخصائص غير متساوية للشروط الإجرائية للديمقراطية، فمن ناحية لا توجد سيطرة مدنية على الجيش، ولا نظام قضائي ضعيف، فهو يجمع بين سمات الأنظمة الديمقراطية والأنظمة غير الديمقراطية، بعبارة أخرى يمكن وصفها أنها أنظمة استبدادية فقدت بعض سمات الاستبداد ولا زالت تحتفظ بالبعض الأخر.

 

النظام الهجين ينتج عن أزمة وتغيير جزئي في نظام سابق يتسبب في إعادة تشكيل بعض الخصائص الرئيسية لهذا النظام، وعلى ذلك يمكن تعريف النظام الهجين أنه “مجموعة من المؤسسات التي استمرت لفترة طويلة وسبقها نظام استبدادي أو تقليدي، وتتصف بانتهاء التعددية المحدودة، كما يغيب عنها على الأقل وجه واحد من الوجوه الأربعة لديمقراطية الحد الأدنى”.

 

يمكننا تصنيف النظم الهجينة إلى عدة نماذج، وهي[4]:

 

الديمقراطية المقيدة (المحدودة) limited democracy

فيها تجرى الانتخابات ويشغل الفائزون فيها مناصبهم، وثمة تعددية حزبية إلا أن الحقوق المدنية يتم تقييدها، لا توجد معارضة سياسية فعالة، كذلك هناك سيطرة على الإعلام لدرجة يمكن من خلالها منع – أو تغييب- جزء من المواطنين من ممارسة حقوقهم السياسية والاجتماعية، وتعد أنظمة بنجلاديش وجواتيمالا ونيكاراجوا أمثلة لهذا النموذج.

 

الديمقراطية دون قانون democracies without law

ويطلق عليها نظم ديمقراطية دون دولة democracy without state، وفيها تتواجد حكومة مبنية على “سيادة القانون”، لكن هناك حالة واسعة النطاق من عدم القانونية، ومن ثم تصبح الدولة غير قادرة على التصرف بشكل صحيح بسبب المؤسسات الضعيفة، لكنها في كل الأحوال لم تصل إلى ما يُطلق عليه “الدول الفاشلة”، وتعد أنظمة هاييتي ونيبال وبنجلاديش أمثلة لهذا النموذج.

 

النظم شبه الديمقراطية quasi-democracies

هي نظم تتواجد فيها المؤسسات المنتخبة والتعددية الحزبية، لكن هناك حالة من الغموض وعدم الوضوح حول أدوار هذه المؤسسات، مع وجود بعض الإجراءات غير الشرعية، وفرض قيود جزئية على الحقوق والحريات، وتعد أنظمة ألبانيا ومقدونيا ومولدوفا أمثلة لهذا النموذج.

 

النظم الشمولية Totalitarianism

تمثل الشمولية الطرف المناقض للديمقراطية. فإذا كانت كلمة الديمقراطية تشير إلى مشاركة المواطن في الحكم لمنع أفراد محدودة من الاستبداد بالحكم، فإن الشمولية تطلق على أعلى درجات الاستبداد. وانقسمت الآراء حول النظم الشمولية[5]، فمنها ما حصر هذا النمط على النظام الفاشي في إيطاليا في عهد موسوليني، والنظام النازي في ألمانيا في عهد هتلر، والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين، في حين يرى رأي آخر أن الشمولية هي نمط من الحكم سماته تناقض سمات الديمقراطية، متى توافر في نظام سياسي فهو نظام شمولي، ومن ثَمّ لا يحصر هذا الرأي الشمولية على مرحلة تاريخية أو نظام بعنيه.

أسلاك شائكة
أسلاك شائكة

 

عرف لينتس النظام الاستبدادي بأنه “نظام سياسي بدون قيود وبدون تعددية سياسية، وبدون أيديولوجية موجهة، لكن يتميز بوجود شخصيات كاريزمية، مع وجود تعبئة سياسية واسعة النطاق أحيانًا، ويقود الزعيم – وقِلّة معه- السيطرة على السلطة وممارستها بصورة مطلقة ودون أي قيود، لكن يمكن التنبؤ بها في الواقع”، وحدد لها خمس سمات رئيسية وهي[6]:

 

  • وجود التعددية المحدودة فيما يتعلق بالمجتمع السياسي والجهات الفاعلة الرئيسية في النظام وسياساته.
  • وجود أيديولوجيا مميزة تُبرر السياسات من خلالها.
  • ضعف التعبئة السياسية أو غياب المشاركة السياسية من قبل الناس من خلال العمل القسري للسلطات الاستبدادية.
  • وجود زعيم أو فئة محدودة العدد تمارس السلطة السياسية.
  • لا حد للقيود التي تُفرض على المواطنين، لكنها يمكن التنبؤ بها، فكل ما يندرج تحت الحقوق والحريات يصبح صعب المنال في الواقع.

 

وهكذا ننهي هذا النمط من تصنيفات النظم السياسية والذي صار عالميًا، وأصبح يُنظر إلى النظام السياسي في كافة دول العالم من خلال عدسة التعددية السياسية، وتبادل السلطة، والمشاركة الشعبية في انتخاب ممثليها، وغيرها من سمات الديمقراطية.

 

المصادر

[1] Bertrand Badie, International Encyclopedia of Political Science, P387

[2] مقدمة في العلوم السياسية، إعداد نخبة من الأساتذة، كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية بجامعة الاسكندرية.

[3] طه حميد العنبكي، النظم السياسية والدستورية المعاصرة: أسسها وتطبيقاتها، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية، صـ231.

[4] Leonardo Morlino,Dirk Berg-Schlosserand Bertrand Badie, Political ScienceA Global Perspective, SAGE Publications, p 112

[5] مقدمة في العلوم السياسية، مرجع سابق صـ 262.

[6] Leonardo Morlino,Dirk Berg-Schlosserand Bertrand Badie, Political ScienceA Global Perspective, SAGE Publications, p 115