تحدثنا في الجزء الأول عن تصنيفات النظم السياسية وفق معيار العدد، وكذلك معيار نمط العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتفيد عملية التصنيف في إظهار جوانب الاتفاق والاختلاف بين الدول وبعضها البعض. في هذا المقال، نعرض زاويةً أخرى للتصنيف بين النظم وبعضها بعضًا وفق المعيار الإداري، ثم ننتقل للحديث على إسهامات أبرز العلماء المعاصرين في تصنيف النظم السياسية، ويتبقى لنا معيار يمكن تصنيف النظم من خلالها وهو معيار الديمقراطية، مع سرد أبرز المؤشرات الدولية التي تُستخدم لتصنيف الدول والتفاوت في القدرات والإمكانيات التي تمتلكها.
أولا: تصنيفات النظم السياسية وفق المعيار الإداري
تنقسم الدول إلى دول بسيطة ودول مركبة، ويعتمد هذا التقسيم على التركيب الداخلي للسلطة[1]، ويمكن توضيح كلا النمطين هكذا:
الدولة البسيطة[2]
تتميز بوجود سلطات واحدة تدير كل شئونها الداخلية والخارجية، فيكون لها دستور واحد، وسلطة تشريعية واحدة، وسلطة تنفيذية واحدة، وسلطة قضائية واحدة. وتتولى هذه السلطات ممارسة صلاحياتها في نطاق الدولة كلها، ولا يؤثر في اعتبار الدولة بسيطة، أن تأخذ الدولة بنظام اللامركزية الإدارية، مهما كان حجم الاختصاصات والصلاحيات الممنوحة للوحدات الإدارية المحلية، ما دامت هذه الوحدات الإدارية تعمل تحت توجيه وإشراف ومراقبة السلطة المركزية، ولا تتمتع بسيادة خاصة بها.
الدولة المركّبة (الفيدرالية)
هي الدولة التي تتمتع الأقاليم أو الولايات المكونة لها بالسيادة الداخلية في المسائل التي يحددها الدستور الاتحادي للدولة، وهي المسائل التي تتعلق في الغالب بإدارة الشأن الداخلي لهذه الأقاليم أو الولايات.
غالبًا ما يكون هناك دوافع وراء نمط الدولة المركبة، مثل[3]: وجود فوارق اجتماعية وثقافية واقتصادية بين السكان، يصعب التعامل معها في إطار دولة بسيطة، أو الرغبة في المحافظة على التميّز الذاتي للطوائف والأعراق والفئات التي تعيش في إطار الدولة، أو أنها مرحلة انتقالية تنهيدًا لإزالة الفوارق القائمة بين الوحدات التي دخلت في الاتحاد، كمقدمة للانتقال بعد ذلك إلى شكل الدولة البسيطة في مرحلة لاحقة.
الاتحاد الكونفدرالي
شكل ثالث عبارة عن اتحاد دولتين فأكثر بقصد تحقيق أغراض معينة مشتركة في مجال أو مجالات محددة للدول الداخلة في الاتحاد، كضمان أمنها وحماية سلامتها أو تحقيق مصالح اقتصادية بينها. ولا ينتج عن هذا الاتحاد نشوء رابطة قوية؛ إذ تبقى كل دول الاتحاد محتفظة بشخصيتها وسيادتها الدولية والداخلية[4]، فيبقى المواطنون في كل دولة محتفظين بجنسيتهم الخاصة، كما تبقى مستقلة عن بعضها من الناحية الخارجية فتتمتع بشخصيتها الدولية الكاملة في حق الانفراد بعقد المعاهدات الدولية والانفراد بالتمثيل الدبلوماسي.
ويُعد الاتحاد الأوربي أقرب الأمثلة لهذا الشكل، فقد نشأت اتفاقيات وشراكات اقتصادية هائلة بين الدول المنضوية تحت لوائه، وأصبح هناك مؤسسة تُسمى البرلمان الأوربي، وإن كان الأخير يسعى ليكون صاحب سياسة أمنية وخارجية موحدة تمثل كافة الدول، إلا أنه لم ينجح في ذلك إلى الآن.
ثانيًا: أبرز إسهامات العلماء المعاصرين لتصنيفات النظم السياسية[5]
تصنيف ألموند[6]
وضع العالم الأمريكي جبريل ألموند تصنيفًا للنظم استنادًا إلى درجة التمايز البنائي والتخصص الوظيفي ومدى التجانس، وبناءً عليه قسم النظم السياسية إلى أربعة أصناف:
- النظم الأنجلو-أمريكية: وهي نظم ثقافتها متجانسة وعلمانية، كما أن الهيئات السياسية متمايزة، ولكل منها دور محدّد تقوم به، وتتوزع السلطة في النظام بشكل عام.
- النظم قبل الصناعية: وهي نظم تختلط فيها الثقافة السياسية والأبنية السياسية، فتمتلك النخب ثقافة حديثة تختلف عن ثقافة الجمهور التقليدية، ومن الناحية البنائية تشهد الأحزاب السياسية حالات من عدم الاستقرار، وتكون الأبنية السياسية مختلطة، بعضها تقليدي وبعضها حديث.
- النظم الشمولية: يمتاز هذا النوع من النظم باعتمادها على أيديولوجية معينة تحدّد الغايات السياسية وأساليب تحقيق هذه الغايات، وتلعب الأجهزة الحزبية والأمنية دورًا متميزًا في المحافظة على مركز واحد للقوة، وتعمل للحيلولة دون ظهور مراكز قوى أخرى في الدولة.
- النظم الأوروبية القارية: تمتاز بأن ثقافتها السياسيّة مجزأة، وتوجد اختلافات ثقافية مع وجود جذور مشتركة وتراث مشترك، أي أن هذه النظم تنطوي على سياسات فرعية أهمها: الثقافة الكاثوليكية، وثقافة الطبقى الوسطى، والثقافة الصناعية.
تصنيف إدوارد شلز[7]
حيث قسّم النظم السياسية إلى خمس مجموعات:
- النظم السياسية الديمقراطية: وتتميز بوجود مؤسسات تمثيلية تعبر عن المواطن، مع حريات عامة، وجهاز تشريعي منتخب، وتعددية حزبية، وقضاء مستقل، وجهاز إداري محترف.
- النظم الديمقراطية الوصائية: وتتميّز بوجود سلطة تنفيذية مهيمنة، وأحزاب محدودة النشاط، وشخص أو مجموعة من الأشخاص يفرضون سيطرتهم على الحزب الحاكم والدولة عن طريق الجمع بين رئاسة الحزب ورئاسة الدولة، وبرلمان له دور محدود نتيجة سيطرة الحزب وتحجيم دور المعارضة، وتكون مؤسسات المجتمع المدني متداخلة في توجهاتها مع توجهات النظام السياسي.
- النظم الأوليجارشية التحديثية: وتتسم بوجود برلمان فاقد القدرة على ممارسة اختصاصاته، ويبدو أداةً تتركز فاعليتها في الموافقة والإعلان، وربما لا تكون هناك أحزاب من الأصل أو هو حزب وحيد، وتكون المعارضة مستهدفة من قبل النظام الحاكم، ويتم التلاعب بنتائج الانتخابات عبر التزوير وغيرها من الوسائل للتأثير على نتائجها، وتعتمد هذه النظم على المحافظة على حضور واضح للمؤسسات العسكرية غالبًا.
- النظم الأوليجارشية الشمولية: تعتمد هذه النظم على أيديولوجيا فكرية معينة كإطار فكري يحدد غايات المجتمع وأساليب تحقيقها، وتظهر بوضوح هيمنة الحكومة وتدخلاتها في حياة المواطنين. وغالبًا ما يكون هناك برلمان لا يكاد يمارس دورًا حقيقًا ولا يؤدي أدوارًا في التشريع أو غيره، ولا مكان في نظام هكذا للمعارضة أو لقضاء مستقل، ولا وجود لشيء يُسمى حرية الرأي.
- النظم الأوليجارشية التقليدية: هنا يكون إسناد السلطة عن طريق الوراثة غالبًا، ويختار الحاكم معاونيه من بين أقربائه وأصهاره، ومن يرتبط معهم بعلاقات شخصية، ولا يوجد برلمان منتخب في أغلب الأحايين. وفي المقابل يتولى الحاكم بالتعاون مع أقرباءه ومستشاريه، مهمة وضع القوانين والسياسات، وتحتفظ الجماعات القبلية وغيرها من الجماعات التقليدية بقدر كبير من الاستقلال.
تصنيف برنارد كريك[8]
ميز المفكر البريطاني برنارد كريك، بين كل من النظم الأوتقراطية والجمهورية والشمولية، باستخدام جملة من المعايير الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويمكن توضيح بعضها كما يلي:
- دور الجماهير: في الأنظمة الأوتوقراطية تتصف الجماهير بالخضوع والسلبية، أما الجمهورية فلها حق المشاركة إن أرادت، وفي الشمولية لابد من تعبئتها وحشدها خلف القيادة.
- القانون: في الأوتوقراطية يكون قانونًا عرفيًا أو هبة من السماء، ويختلف تطبيقه بحسب المكانة الاجتماعية للفرد، أما الجمهورية فالقانون يجمع بين العرف والتشريع ويُطبق على الجميع بدون تمييز، وأما الشمولية فهي قوانين التطور التاريخي يضعها ويفسرها ويطبقها الحزب الحاكم.
- المشاركة السياسية: في النظم الأوتوقراطية تقتصر ممارسة السياسة على القصر ومرتاديه من أقرباء الحاكم وأصحاب المصالح معه، أما في النظم الجمهورية فالمشاركة مسموح بها، وتوجد معارضة علنية وشرعية عبر مؤسسات كالأحزاب.
هوامش ومصادر
[1] سعاد الشرقاوي، النظم السياسية في العالم المعاصر، كلية الحقوق جامعة القاهرة، 2007، انظر صـ79.
[2] ورقة بحثية بعنوان “الخيارات المتاحة لشكل الدولة اليمنية المنشودة” مقدمة إلى فريق بناء الدولة ـ مؤتمر الحوار الوطني الشامل باليمن، صـ1.
[3] المرجع السابق، صـ2.
[4] مقرر القانون الدستوري – كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة سطيف، الجزائر.
[5] ثامر الخزرجي، النظم السياسية الحديثة والسياسات العامة: دراسة معاصرة في استراتيجية إدارة السلطة، صـ 37 – 40
[6] عالم سياسة أمريكي، من أشهر من اعتنوا بدراسة النظم السياسية، ومن رواد مدرسة البنائية الوظيفية، من أشهر كتبه “السياسات المقارنة في وقتنا الحاضر نظرة عالمية”، وقد تُرجم إلى اللغة العربية.
[7] عالم اجتماع أمريكي، اهتم بدراسة المجتمعات، والاختلاف في طريقة توزيع السلطات بينها.
[8] مفكر سياسي بريطاني ولد عام 1929، وتوفي عام 2008، من أهم كتبه “دفاعًا عن السياسة In Defence of Politics”.