من بين المصادر التي شكّلت ثقافة ووجدان قطاعات كبيرة من أبناء جيل الثمانينات والتسعينات في مصر، وفي العالم العربي، كانت سلسلة “ما وراء الطبيعة” حاضرةً بقوة. تناقش السلسة الظواهر الخارقة والأساطير المرتبطة بها، وتميل إلى منطَقة أو تفنيد هذه الظواهر والأساطير، وكان لأسلوب مؤلفها الدكتور أحمد خالد توفيق، وكذلك بطلها الدكتور رفعت إسماعيل، الذي تميّز بالسلاسة والسخرية والزخم المعلوماتي، تأثير مميّز، لا زال يذكره أبناء هذه الأجيال، ولا زال يؤثر في قرائه الجدد حتى اليوم.
من بين أعداد سلسلة ما وراء الطبيعة، تأتي الأسطورة رقم 12 في السلسلة “أسطورة البيت”، التي صدرت عام 1993م، والتي يعيد المخرج المصري عمرو سلامة تقديمها كإطار درامي للجزء الأول من مسلسل ما وراء الطبيعة، الذي تنتجه منصة نتفليكس، وتطلقه أوائل نوفمبر 2020م.
ملخص قصة أسطورة البيت
يستهل رفعت هذه الأسطورة، بالحديث عن خطيبته هويدا ومشاعره الفياضة نحوها، في الوقت الذي لم ينسَ فيه حبيبته الأسكتلندية قطّ، بل وصل الأمر إلى درجة أن هويدا صارت تشبه ماجي كثيرًا في نظر رفعت. يحكي رفعت عن تحفظات هويدا على التحولات التي لاحظتها عليه، واتجاهه نحو الرقة الوسعادة ونمط من السلوكيات غير المعتادة منه، وهو الأمر الذي لاحظه زملاؤه وطلابه في كلية الطب أيضًا حيث يعمل أستاذًا لأمراض الدم. وصل تحفظ هويدا إلى درجةٍ جعلتها تتوقع أنّ رفعت بحالته هذه مُقبلٌ على مصيبةٍ كبرى في حياته، بل إنها رأته في كابوس متكرّر وقد تمزّق إلى أشلاء.
بلا مقدّمات، يصل خطاب لرفعت من إلهام، صديقة طفولته، تخبره عن مشكلة ما في المنصورة، وتطلب منه أن يذهب لمقابلتها مع زوجها محمد أيوب. كانت إلهام ضمن شلّة طفولة رفعت في المنصورة، التي ضمّت – إلى جانب إلهام- التوأم عماد ومدحت، وعبير، أبناء الخال عبد الرحمن.
اتضح أن الأمر يتمحور حول الطفلة شيراز التي كانوا يلعبون معها في طفولتهم في بيت الخضراوي المهجور، قبل أن يعرف أهاليهم بالأمر ويمنعوهم من الذهاب إليه مجدّدًا.
ما الجديد إذن؟
لقد عادت شيراز بعد كل هذا العُمر؛ تركت بيت الخضراوي الذي لم تكن تخطو خارج بوابته، لتبحث عن شلّة الأصدقاء القديمة. زارتهم جميعًا في نفس الوقت، في أحلامهم وفي يقظتهم، في أماكنهم المختلفة. كانت تحاول الاستنجاد بهم لينقذوها من التحوّل إلى مسخٍ بلسانٍ مشقوق وأنيابٍ بارزة.
وحين اجتمعوا أخيرًا لاتخاذٍ قرارٍ بهذا الشأن، جاءتهم في اجتماعهم لائمةً متوعّدةً إياهم؛ لأنهم لم ينجدوها حين طلبت منهم. وهنا، سيتحتّم على شلّة الأصدقاء أن يعودوا جميعًا إلى بيت الخضراوي لمواجهة الأمر وإيقافه عند حدّه. يتضح أنّ الخطر لا يكمن في شبح شيراز ولا في الأشباح الأخرى الموجودة في البيت، وإنما الخطر يكمن في البيت نفسه، وعليهم أن يخوضوا مواجهتهم معه حتى النهاية.
سيكولوجية البيوت المسكونة
البيوت المسكونة هي بيوت تحدث فيها ظواهر غير طبيعية (أصوات، أضواء، ظلال، حركة، وهكذا)، لا سبب بشريّ لها، ولا منطق لها ولا يسهل تفسيرها، وبالتالي يرجع تفسير هذه الظواهر إلى سبب غيبي ما ورائي، قد يرتبط بالأرواح أو بالجان والعفاريت، أو حتى بما يمكن توصيفه بالطاقة النفسية للأماكن. وتختلف البيوت المسكونة، عن نظيرتها البيوت المأهولة (البيوت الطبيعية الآمنة التي يعمّرها الأهالي والناس الطبيعيون).
تحفل أدبيات الكتابة والدراما، بأعمال كثيرة تتناول البيوت المسكونة، وتكاد تشترك هذه البيوت في ملامح وسلوكيات يمكن إجمالها في الآتي: أنها تقع في مكان بعيد بعيد ومعزول، بحيث إذا حدث فيها مكروه لأحدٍ تستغرق المساعدة وقتًا طويلاً في الوصول، هذا في حال إذا كان التواصل مع العالم الخارجي ممكنًا.
تحظى البيوت المسكونة عادةً بأحجام كبيرة وأجواء مظلمة أو قاتمة، وأسوار حديدية خارجه، وسلالم متداعية وتخطيط معماري مربك، يتسبب في التيه بداخله، ويعيق عملية الهروب منه، ولا مانع من شبكات عنكبوت في سقفه، وخفافيش وفئران وحشرات تكمّل الصورة. وفي النهاية لابدّ من وجود نوعٍ من الأسطورة يرتبط بالبيت.
عادةً، في أدبيات الرعب يكون السبب في جعل البيوت المسكونة مسكونةً، أن يكون المهندس بانيها ذا تاريخٍ دمويٍ خاصٍ به، مما يتسبّب في تسرّب بعض خصائصه الوحسية إلى المنزل الذي قام بتصميمه. وهناك سببٌ آخر أكثر انتشارًا يتمثّل في وجود تاريخ من الوقائع الغامضة أو المميتة المروّعة (حادث، وفيات، انتحار، قتل)، تجعل البيت يعمل كمسجّل لهذه الأحداث يعيد إنتاج هذه الأحداث المروّعة التي جرت داخل جدرانه.
تتصرّف البيوت المسكونة كما لو أنّ لها حياتها وإرادتها المستقلّة، بدوافع الانتقام أو العبث أو السيطرة وهكذا، وتستخدم قوّتها النفسية وتفاصيلها المعمارية والأشباح الموجودة بداخلها، كأسلحة وأدوات لإضعاف وترويع ضحاياها والسيطرة عليهم.
كتطبيق على هذه المعالم المهمة في أسطورة البيت، يقدّم المؤلّف أحمد خالد توفيق البيت المسكون “بيت الخضراوي”، عبر ملامح يذكرها رفعت إسماعيل بطل الأحداث، “البيت يعرف كلّ شيء.. البيت يذكر كلّ شيء.. البيت ينتظرنا بعد كل هذه الأعوام.. البيت لم ينسَ وجوهَنا”. البيت بطلٌ في الأحداث، وله إرادة ومبادرة، ويشارك كطرفٍ قويّ في الصراع الدراميّ.
أيضًا، يقع البيت على أطراف مدينة المنصورة، قرب النيل، ويظهر في الرواية بوصفه “لا تجرؤ الطيور على الوقوف على أشجار هذا البيت”، من داخله نرى نسيج العنكبوت يغلّف كل شيءٍ، وأجواء العظمة الغابرة لا زالت حاضرة فيه. وتاريخ البيت يعرفه الكبار، ولا يعرفه الصغار، فقد توفيت زوجة الخضراوي صاحب البيت وابنته شيراز، وكل خدم البيت في حادث غامض عام 1921م. ومع ذلك تحضر أشباح هؤلاء الراحلين داخل البيت.
أسطورة البيت في مسلسل ما وراء الطبيعة
جرت العادة في الأعمال الدرامية السينمائية والتلفازية وعلى المنصّات الرقمية، أن يكون بعضها مقتبسًا. قد تكون مقتبسة عن أعمال سابقةٍ صدرت ضمن نفس الوسيط (الشاشة)، أو عن مصادر تضمّنتها وسائط أخرى، كالأساطير والكتب المقدّسة والحكايات الشعبية والقصة والرواية والمقالات والألعاب والأنيمي والكوميكس.
بطبيعة الحال، تتفاوت درجات هذا الاقتباس وحرفيّته، وفقًا لاعتباراتٍ كثيرةٍ متعلّقة بالوسيط الذي سيعرض من خلاله العمل، ورؤية صنّاع العمل الجديد، وهكذا. والذي يعنينا هنا، هو كيف نقيّم هذا العمل المقتبس؟
تقييم الأعمال المقتَبَسة
يُنظَر إلى عملية الاقتباس الفنيّة، وفق اعتبارين رئيسيين:
الاعتبار الأول متعلّق بالمعالجة؛ هل هي معالجة أمينة وصادقة بالنسبة للأصل المأخوذة عنه، وتحتفظ بأجوائه ونوعه الدرامي وأنماط شخصياته الرئيسية؟ هل تحتفظ المعالجة بنفس التأثير والخواص التي كانت للعمل الأصلي على المستوى الفني والفكري والوجداني؟
الاعتبار الثاني متعلّق بالتغييرات التي تمّت وفق رؤية صنّاع العمل المقتّبس؛ هل قاموا باختصار المادة الأصلية عبر حذف بعض المشاهد/ الأجزاء/ المقاطع، أو عبر حذف جزء من الحبكة، أو ربما عبر تكثيف عددٍ من المَشاهد؟
أو، هل قاموا بتطويل المادة الأصلية عبر تقديم معلومات جديدة غير موجودة بالأصل، أو اختراع بعض الشخصيات أو الأحداث، أو خلق مشاهد جديدة للوصل بين أجزاء القصة وفقًا لرؤيتهم الخاصّة؟
وأخيرًا، كيف ترجم صنّاع العمل المادة الأصلية على الشاشة؟ ونحن هنا نتحدّث عما ضمّنوه في العمل الجديد من أفعال، وحوارات، وتعليقات صوتية، ومؤثرات مرئية وصوتية، وديكورات ومناظر، وملابس، وغير ذلك من التفاصيل المهنية الأخرى.
وفق هذه الاعتبارات تتمّ عملية تقييم العمل المقتَبَس. وهي عمليةٌ يتمكّن منها المشاهد العادي والناقد المتخصّص على حدٍ سواء.
تقييم الاقتباس في مسلسل ما وراء الطبيعة
وفق تسلسل الحلقات الستّ من الموسم الأول من مسلسل ما وراء الطبيعة، الذي يكتبه ويخرجه المخرج المصري عمرو سلامة، فإن أسطورة البيت تمثّل إطارًا دراميًا تبدأ منه الأحداث في الحلقة الأولى، وتنتهي بالعودة إلى البيت ذاته مجددًا في الحلقة السادسة الأخيرة. وفي المنتصف نرى دمجًا لأساطير لعنة الفرعون، وحارس الكهف، والنداهة، والجاثوم، في سياق الأحداث، مع استحضار شخصية ماجي لتشارك في بعض الحلقات، على عكس الروايات.