تعتبر كل من الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك أحد المعارف البينية التي تربط بين حقلين من الحقول المعرفية في العلوم الاجتماعية، وهما العلوم السياسية وعلم الجغرافيا، وربما لو سألنا الكثيرين عن الفارق بين الجيوبولتيك والجغرافيا السياسية، فستجد كثيرين يخبرونك أنه ليس هناك فارق، وأن كل من المصطلحين يُعبر عن علم واحد، فهل حقًا الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك هما وجهان لعملة واحدة ؟ أم هناك اختلاف بينهما ؟ هذا ما سنحاول التعرف عليه في السطور الآتية…
الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك: المعنى اللغوي ودلالاته
نتطرق الآن للمعنى اللغوي لكل من المصطلحين، بدايًة فالجغرافيا السياسية هي ترجمة لكلمة Political Geography، فكلمة السياسية هنا وصف لعلم الجغرافيا، وبالتالي فالمقصود هنا هو دراسة تأثير الظاهر السياسية على الظاهرة الجغرافية.
أما على الجانب الآخر فكلمة الجيوبولتيك -وأحيانا تُكتب جيوبولتيكا أو جيوبوليتكس- وأحيانًا تُكتب بالعربية الجيوبولتيكا أو الجيوبولتيكس فمقابلها باللغة الإنجليزية هي كلمة Geopolitics وهذه اللفظة مختصرة فأصلها هو Geographic Politics والمعنى التي تعبر عنه هذه الكلمة هو تأثير الظاهرة الجغرافية على الظاهرة السياسية، وأحيانًا يُعبر عن هذا المعنى بالعربية بكلمة “الجيوسياسية”.
بناءً على ما سبق فكأن كل من الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك هو مقلوب للآخر، فالأولى تعني النظر للظاهرة الجغرافية من منظور سياسي، أي كيف تؤثر التفاعلات السياسية على الجغرافيا، والثانية –الجيوبولتيك- تنظر إلى الظاهرة السياسية من منظور جغرافي، وكيف تؤثر الجغرافيا فيها.
اقرأ أيضًا: دليلك إلى أهم كتب مقدمات العلاقات الدولية
نشأة الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك
أول من صاغ مصطلح الجيوبولتيك هو الجغرافي السويدي رودلف كيلين (1864-1922) عندما استخدمه في كتاب له عن القوى الكبرى عام 1905، وقد اعتبر كيلين أن الجيوبولتيك هي “علم الدولة”، أو بعبارة أخرى هي علم يساعد على ما يجب أن تكون عليه أراضي الدولة كقاعدة جغرافية (1)، كما أنه اعتبر أن الدولة كائن حي، وبالتالي فالدولة شأنها كشأن الأحياء تمر بفترات نمو وفترات قوة وفترات ضعف، كما أنها تتصارع مع غيرها من الكائنات (الدول) .
أما عن الجغرافيا السياسية فهناك من يعد أرسطو أول من كتب عن الجغرافية السياسية في كتابه “الدولة المثالية” حينما اعتبر أن عناصر الدولة الأساسية هي الأرض والسكان والعاصمة والقوة العسكرية، ومن ناحية أخرى فقد تحدث ابن خلدون عن القوة السياسية للمدينة والقبيلة، وربط القوة العسكرية بالجغرافيا، وفي العصر الحديث يُعد الألماني فردريك راتزل أبو الجغرافيا السياسية حيث صك مفاهيم جديدة لهذا الحقل المعرفي الناشيء، وطرح أساليب ومنهجيات جديدة لدراستها.
إذن فالجغرافيا السياسية فهي أقدم في الظهور والتبلور، قد تغيرت على مدار العصور، وتطورت تعريفاتها وتعددت لكونها ترتبط بعدد متنوع من المعارف مثل السياسة والاقتصاد والتاريخ، ولكونها تركز وتهتم بالحدود السياسية فكانت جغرافية الحدود السياسية، ولكونها تركز على دراسة المشكلات السياسية المرتبطة فصارت جغرافية سياسية، ولما اهتمت بالدولة وإقليمها التي تبسط عليها نفوذها السياسي فقد سُميت جغرافيا سياسية .
اقرأ أيضًا: كل ما تحتاج معرفته عن مفهوم الاستراتيجية (2)
التعريف العلمي لكل من الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك
بعدما عرضنا الفارق في دلالة المصطلحين وتاريخ نشأة كل منهما ننتقل الآن للتعريف لكل الفرعين المعرفيين:
تعريف الجغرافيا السياسية
هناك عدة تعريفات للجغرافيا السياسية، منها أنها تهتم “بدراسة الأقاليم السياسية التي تنقسم إليها الأرض كظاهرة من ظاهرات سطحها، ويتسوي في ذلك الإقليم السياسي الصغير كالدولة والإقليم السياسي الكبير الذي يشغل منطقة من العالم”، وتعريف آخر يرى أنها “جغرافية لها وجه سياسي لكونها تساعد في تحديد العوامل الجغرافية المؤثرة في السلوك السياسي للإنسان”، وثالث يعرفها بأنها ” نوع من الجغرافية العامة التي تهتم بدراسة الظاهرات السياسية، واختلافها من مكان لآخر متأثرة في ذلك بالبيئة الجغرافية”، و رابع يراها عبارة عن “تحليل العلاقات المتبادلة بين البيئة والدولة من الوجهة السياسية”(2).
بالنظر للتعريفات السابقة للجغرافيا السياسية يمكن أن نصنفها إلى نوعين؛ الأول مجموعة تركز على دراسة الوحدة السياسية خاصة الدولة، والثاني يركز على التفاعلات والعمليات مثل تتابع الأحداث والأفعال والإجراءات السياسية بهدف إنشاء كيان سياسي.
تعريف الجيوبولتيك
عرّف كيلين الجيوبولتيك أنها “دراسة نظرية الدولة كعضو جغرافي أو ظاهرة في المكان، وعلى الدولة أن توظف قوتها لسببين، الأول خارجي بحصولها على حدود سياسية طبيعية، والثاني يهدف لتحقيق وحدتها السياسية داخليًا”، أما هوسهوفر فيعرّف الجيوبولتيك أنها “دراسة علاقات الأرض ذات المغزى السياسي، وأن المظاهر الطبيعية لسطح الأرض ترسم الإطار الذي تستثمره وتوظفه الجيوبولتيك فيما بعد، وهناك تعريف لمول Maull بأن الجيوبولتيك تهتم بـ “دراسة الدولة من الوجهة السياسية ولكنها لا تنظر للدولة كمفهوم ستاتيكي، بل ككائن حي متحرك”.
هناك نوع من التعريفات التي يبرز السلبيات التي يراها البعض في الجيوبولتيك مثل من يرى أنها ” عبارة عن فكر معين يظهر ويسود في منطقة ليحاول تعظيم منافعها ومكاسبها القومية. وينظر الجيوبولتيك إلى المجتمعات والجماعات الأخرى من خلال منظور المصلحة القومية، وتبحث الجيوبولتيك عن القوة لتحقيق أهدافها، وفي هذا دليل كاف على ماهيتها، وهي عبارة عن دراسة للعمليات السياسية الدينامية التي تعمل على مستوى أوسع من الدولة وذات منظور عالمي”.
ما الفارق بين الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك ؟
بعد أن عرضنا المعمى اللغوي لكلا المصطلحين وبينا تاريخ ظهور كل منهما، والتعريفات المتعددة لهما، سنجاول الآن أن نجيب عن السؤال المطروح “ما الفارق بين الجغرافية السياسية والجيوبولتيك؟
من الناحية الموضوعية فلا يمكن الفصل التام بين كلًا من الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك، بل أن هناك من يرى أن الجيوبولتيك فرع عن أصل هو الجغرافيا السياسية، وأن بدايات الجيوبولتيك تأثرت بأفكار راتزل عن الجغرافية السياسية، وأكثر من ذلك أن المدرسة الأمريكية لا تفرق بين الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك.
في نقاط محددة يمكن إبراز الفارق بين الجيوبولتيك والجغرافيا السياسية كما يلي (3):
1- الجغرافيا السياسية تهتم بالدولة كما هو في الواقع، أما الجيوبولتيك يبحث عما ينبغي أن تصل إليه الدولة، بعبارة أخرى فالأولى تهتم بما هو كائن بالفعل، أما الجيوبولتيك فتهتم بما ينبغي أن يكون .
2- ارتباطًا بالنقطة السابقة فالجغرافيا السياسية ترسم معالم الدولة وأوضاعها كما كانت في الماضي وكما هي عليها في الحاضر، أما الجيوبولتيك فترسم حالة الدولة في المستقبل، أي أن الجيوبولتيك تساهم في رسم السياسات الخارجية للدولة في المستقبل لتصل إلى أوضاع معينة، وهي لا شك تستعين بخبرة الماضي والحاضر التي تهديها إياها الجغرافيا السياسية.
3- الجغرافيا السياسية تتسم بالثبات static لأنه يهتم بدراسة الظواهر الجغرافية التي تتمتع بالاستقرار إلى حد كبير، بخلاف الجيوبولتيك التي تمتاز بقدر عال من التحرك والتغير فهي ديناميكية بشكل كبير.
4- تُعد الجغرافيا السياسية أحد الحقول المعرفية التي تقوم على أسس موضوعية يمكن من خلالها تقييم القضايا المتعلقة بالدول ومسائل العلاقات الدولية بغرض إحلال السلم والأمن، بخلاف الجيوبولتيك التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقوة وبسعي الدول إلى التوسع وربما الهيمنة على غيرها من الدول، وتتأثر تأثرًا شديدًا بالايديولوجيا والأفكار، فهي تساهم في رسم السياسات الخارجية والرؤى الاستراتيجية للدول، وبناء على ذلك فهي تتسبب أحيانًا في اندلاع الصراعات وقيام الحروب، فالدولة وفق الجيوبولتيك هي كائن حي يستطيع أن ينمو ويكبر حجمه عبر السيطرة والاستيلاء على مساحات جديدة من دول أخرى، مجاورة غالبًا.
5- ارتباطًا بالنقطة السابقة فالجغرافيا تقر بالحدود السياسية المرسومة بين الدول، وتحترمها وتحض عليها، أما الجيوبولتيك فهي لا تعترف بذك، بل أنها كثيرًا ما تتجاوزها وتسعى لتغييرها .
المراجع:
(1) معين حداد، الجيوبوليتيكا: قضايا الهوية والانتماء بين الجغرافيا والسياسة، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، صـ9.
(2) محمد محمود إبراهيم الديب، الجغرافيا السياسية: منظور معاصر، مكتبة الانجلومصرية، صـ صـ 58 – 64.
(3) بوسنان سفيان، محاضرات في الجغرافيا السياسية، قسم العلوم السياسية بجامعة جيجل، صـ8