“جوشوا فوير”، صحفي أمريكي شاب، ينشط في الوفاء بأجندة مهامه الصحفية بقدر الإمكان. بينما كان فوير يغطّي بعض المواضيع المتعلقة بأجندته، تصادف له أن حضر بطولة أمريكا لمسابقات فنون الذاكرة، وانبهر بشدّة بما رآه في فعاليات البطولة. بعد عام بالضبط، في النسخة التالية من المسابقة، فاز جوشوا بلقب البطولة. كيف تمكّن من إحراز هذا الإنجاز خلال هذا العام؟ في الكتاب الرشيق (رقصة القمر مع أينشتاين.. فن وعلم تذكّر كل شيء)، يجيب مؤلفه جوشوا فوير بالتفصيل عن هذا السؤال.
فنون الذاكرة من الصفر إلى البطولة
هل يمكن لشخصٍ ينسى سريعًا أين ترك مفاتيح سيارته، بل وقد ينسي اسم أحد أبناء أخته الذي يلاعبه بشكل شبه يومي.. هل يمكن لمثل هذا الشخص أن يحفظ قائمةً من عشرات الأرقام، أو قائمة من أسماء وعناوين وأرقام هاتف 30 شخصًا، فقط من نظرة واحدة مطوّلة، ويجيب عن الأسئلة العشوائية حولها في البطولة بسهولة وبلا خطأ واحد؟
يجيب جوشوا في كتابه عن هذا السؤال: “بالتأكيد”. ويضرب مثالاً على هذا بتجربته الشخصية في هذا الأمر، بل وصل الأمر به إلى حفظ كومتين من أوراق اللعب (الكوتشينة) بسرعة كبيرة، وإعادة ترتيبها تمامًا كما كانت، بعد بعثرتها عشوائيًا.
يحكي جوشوا فوير في كتابه بالتفصيل، كيف بدأ من الصفر، أبحاثه وتدريباته، أخطاءه وقفزاته الإنجازية، وكيف ربط بطولة أمريكا في مسابقات الذاكرة، مع نظيرتيها بطولة أوروبا وبطولة العالَم، على التوازي. وإلى أي مدىً كان حريصًا على مدار عامٍ كامل، على متابعة نتائج وتطوّرات أبحاث أحد مختبرات الأبحاث على الذاكرة، بانتظام، حاشدًا الكثير من التفاصيل المدهشة.
ألعاب الذاكرة وفنون التذكّر
الكتاب ذائع الصيت، ويمثل مرجعًا للفيلم الوثائقي الممتع Memory games ألعاب الذاكرة، الذي استضاف أحد الأسماء المعروفة في بطولات العالم لمسابقات الذاكرة، “يانجا وينترسول”، وذكرت اسم الكتاب باعتباره الكتاب الذي عرّفها على عالَم الذاكرة.
في الكتاب، يتتبّع جوشوا التسلسل التاريخي لفنّ الذاكرة، بدايةً من تقنية (قصر الذاكرة) المنسوبة للشاعر اليوناني سيمودنيدس، والتي تعتبر هي التقنية الجوهرية لفنون الذاكرة، وخلاصتها أنها تقوم على تحويل المُدرَكات الحسية (خصوصًا المسموعة والمرئية) إلى صور وتشكيلات بصرية لافتة، يوطّنها الشخص داخل ذاكرته في مكان ما يعرفه ويحفظه جيدًا جدًا (مبنى أو حديقة أو مدرسة أو قصر)، بحيث تصبح عملية استعادة المعلومات هي مجرد استعادة لذكرى جولة التوطين هذه. في الفيلم الوثائقي المذكور (Memory games) تجسيد مصوّر لميكانيزم هذه التقنية، مقدّمة بشكلٍ ممتع.
فنون الذاكرة عبر التاريخ
يستعرض جوشوا أيضًا، تطوّر التعامل مع تقنيات الذاكرة عند الأوروبيين، وارتباطه بالثقافة والفلسفة وربما الكهنوت، وصولاً إلى موقف الكنيسة المناهض تمامًا لهذه التقنيات الذهنية، باعتبارها شكلاً من أشكال الأيقنة الوثنية المنافية لتعاليم الكنيسة، وهو ما تسبب لاحقًا في اختفاء أدبيات وكتب العناية بتقنيات الذاكرة والتدريب عليها. وصولاً إلى العصر الحاضر، وإعادة بعث تقنيات الذاكرة، بل وإنشاء منافسات محلية وقارّية وعالمية لها، تحظى بشعبية واعترافٍ متزايد.
يحكي المؤلف “جوشوا فوير” عن أسماء أشخاصٍ كثيرين، قابلهم وتحاور معهم، من بينهم شخصية أحد رواد المجال “توني بوزان”، الذي يستعرض المؤلف شخصيته وأفكاره وحواراته معه بسياقٍ مطوّل مليء بالتهكّم والطرافة.
ورغم أن الكتاب أشار إشارة سريعة مقتضبة لتوافر فنون للذاكرة في الحضارات القديمة مثل الهنود والعرب، إلا إنه لم يستطرد في تفاصيلها وتقنياتها في هذه الحضارات. وهو ما يبعث على التساؤل حول التقنيات الطبيعية التلقائية التي كان يستخدمها العقل العربي في الحفظ في العصور الشفاهية، سواءً كانت الجاهلية أو الإسلام؟ تقنيات الذاكرة العربية هذه، ربما تكون مرتبطةً بجوهر اللغة العربية وأدائها لمدلولاتها.
أخيرًا، تمنحك قراءة كتاب (رقصة القمر مع أينشتاين.. فن وعلم تذكّر كل شيء)، لجوشوا فوير، دفعةً جوشوا إيجابية حقيقية، وغالبًا ستورّطك في عملية صيانة لائقة لأداء ذاكرتك، بطرقٍ ذات نتائج مضمونة؛ والشاهد على هذا أنّ الكثيرين جرّبوها من قبلنا، ووصلوا إلى هذه المرحلة من الإنجاز ببراعة.