في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، تفشّت حركة الحقوق المدنية، وكذلك أنشطة الحركة الاجتماعية، وكانت فترة ساخنة في أغلب دول العالم، شملت مواجهات بين الشباب والسلطات سواء كانت محلية أو استعمارية. كان الشباب منخرطين في هذه الحركات والأنشطة، وكانوا الأكثرية بين أفرادها، وسبّب هذا قلقًا وصداعًا لافتًا للأنظمة وللمؤسسات الاقتصادية.
غير أنّه في الوقت ذاته، كانت الشريحة العمرية الأقل منهم مباشرة، أقلّ اهتمامًا وأخفّ انخراطًا في هذه الحركات الاجتماعية، وظلّوا كذلك – أكثر هدوءًا وأقل إزعاجًا- حين وصلوا إلى سنّ الشباب في السنوات المتأخرة من عِقد الستينات وأوائل السبعينات. وهنا برز التساؤل حول السبب الذي جعل سلوك هؤلاء يختلف عن سلوك أولئك؟ كان الأمر محيّرًا لولا الإجابات التي قدّمها عالم الاجتماع المجري ومؤسس علم الاجتماع المعرفي “كارل مانهايم”.
كارل مانهايم وتصنيف الأجيال
نظرية الأجيال
في عام 1923م، وضع كارل مانهايم نظريته في تصنيف الأجيال، وعرّف الجيل باعتباره “مجموعة من الأفراد ذوي الأعمار المتشابهة، الذين شهدوا حدثُا تاريخيًا جديرًا بالملاحظة والتدقيق في غضون فترة زمنية معيّنة”.
وتتنوّع تصنيفات الأجيال بين:
– أجيال القرابة، وهي الأجيال التي يمكن رصدها في نظاق رتبة القرابة العائلية، من الأجداد، إلى الأباء والأعمام، إلى الإخواة، إلى الأبناء، ثم الأحفاد، وهكذا.
– أجيال ثقافية، وهي الأجيال التي يمكن رصدها داخل نطاق تاريخ الفنون والإبداع والحركة الثقافية، كما في حيل الرواد، جيل الطليعة، وهكذا.
– أجيال اجتماعية، وهي التي سنتعرّض لها بشكل مفصّل في بقية هذا المقال.
وهناك تقسيمات أخرى ترتبط بنوع الأحداث ونطاق الاستجابة، المحلّي أو العالمي. وفضلاً عن ذلك، فإن كلّ جيل يتضمن طبقات داخله (بحسب الموقع والثقافة والطبقة وغيره)، ويؤثر هذا في اختلاف وجهة النظر ومدى التأثر والتفاعل مع الأحداث.
نظرية الفجوة بين الأجيال
في عام 1960م، طوّر كارل مانهايم اشتغاله على الأجيال، وتوصّل إلى نظريته حول “الفجوة بين الأجيال”، اعتمادًا على أنّ الأحداث والمتغيّرات والنوازل الاجتماعية والسياسية والتقنية والتاريخية تؤثر في الأشخاص (وخصوصًا إذا كانوا منخرطين فيها بنشاط). وينتج على هذا الأساس تغيّرات تشكّل كل جيل بحسب ما يتعرّض له، وأنماط تأثره واستجابته.
هنا أمكن تفسير كيف ساهمت الأحداث التاريخية والثقافية والسياسية المهمة في تشكيل وعي واستجابة كل جيل على حدة. ويبدو أنه من حينها تم اعتماد نظرية الأجيال في الدراسات المختلفة الإعلام والإعلان والتسويق والضبط المجتمعي والهندسة الاجتماعية.
تقسيمات الأجيال
1– الجيل الضائع:
وهو الجيل الذي بلغ منتصف العشرينات حتى الثلاثينات أثناء الحرب العالمية الأولى. وترجع تسميته بهذا الاسم إلى ولادتهم ونشأتهم في ظل انطلاق الثورة الصناعية الثانية التي قامت على اكتشاف الكهرباء وتوظيفها في الانتاجات الصناعية الضخمة والاتصالات. وقد عانى هذا الجيل من التأثيرات السلبية للإقبال العالمي على الصناعات المختلفة بما فيها الصناعات العسكرية، وكذلك تأثيرات موجات الهجرة المتزايدة، والأمراض، والحرب العالمية الأولى. ويمكن التعرّف على بعض ملامح معاناة هذا الجيل من خلال ما رصده الروائي الأمريكي “إي إل دوكتورو” في روايته الشهيرة “راكتايم“.
2– الجيل العظيم
وهو الجيل الذي مرّ بأزمتين عظيمتين في شبابه، هاتان الأزمتان هما: الكساد الكبير (ويقصد به الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت في 1929م واستمرت حتى بدايات الأربعينات)، ثم شاهد أهوال الحرب العالمية الثانية أو شارك فيها. ويعدّ هذا الجيل هو صانع ومُنتِج حقبة ما بعد الحداثة بتجلياتها المعرفية والتطبيقية، كما يُعدّ صاحب الفضل في إيجاد جيل طفرة المواليد فيما بعد.
3– الجيل الصامت
وهم مواليد الفترة 1925م حتى 1945م. ويتجاوز عمرهم الآن 75 عامًا. وترجع تسميتهم بهذا الاسم إلى النمط السلوكي الذي كان مفروضًا عليهم كالتزام الصمت وعدم إبداء الآراء في الأحداث القاسية التي نشأوا فيها كالأوضاع الاقتصادية والكساد الكبير. إلا أنهم في شبابهم كان لهم دور مؤثر في حركة الحقوق المدنية، وشهدوا انطلاقة الثورة الصناعية الثالثة التي بدأت مع اختراع الحاسوب وظهور الإنترنت وبرمجة الآلات في 1969م وإدخاله في غالب نواحي التصنيع والاتصالات وتقنيات التعليم.
4– جيل طفرة المواليد
وهم مواليد الفترة بين 1946م حتى 1964م. وتتراوح أعمارهم الآن بين 56 إلى 76 عامًا. وترجع تسميتهم بهذا الاسم إلى الارتفاع الحاد الذي شهده هذا الجيل في عدد المواليد، حيث كان الاتجاه السائد إلى تعويض الخسائر البشرية المهولة الناتجة عن الحرب العالمية الثانية.
يتميز هذا الجيل بالثقة في النفس، وتبني الاستقلالية، والارتياح في إدارة السلطة.
من أهم سِمات هذا الجيل أنه يركز على جودة المنتج والضمانات والقيمة في مقابل مدفوعاتهم، مع تفضيلهم لتوافر تفاصيل تقنية إضافية حول المنتَج أو الخدمة المستهدفة. وقد تزايد استخدام هذا الجيل لوسائل التواصل الاجتماعي، رغم افتقارها إلى المهارات التقنية، ويقتصر استخدامها على التواصل والأخبار ومشاهدة المحتوى المرئي. وغالبًا يفضّلون منصات يوتيوب وفيسبوك.
5– جيل إكس
وهم مواليد الفترة بين 1965م حتى 1979م. وتتراوح أعمارهم الآن بين 41 إلى 55 عامًا.
يتميز هذا الجيل بالقدرة على الجمع بين قيم وأخلاقيات العمل، وبين التصرف الهادئ، وسرعة التكيف مع وسائل التواصل الاجتماعي واعتمادها، ويحب قضاء الوقت في البحث عن المعلومات والتواصل مع الأصدقاء، وهو يشبه جيل طفرة المواليد قليلاً، مع ارتباطه بأنواع موسيقية مثل البانك (punk) و التكنو (techno)، ولا يعتبر ذا تأثير كبير في مسيرة التقدّم الحديث.
يفضّل هذا الجيل منصات فيسبوك ويوتيوب، ويعتبر إنستجرام شكلاً جديدًا بالنسبة لهم، ويميلون إلى توضيح الفوائد له إذا قام بشراء منتجك.
(فئة الـXennials، وهي فئة محشورة بين جيل إكس وجيل واي، لها خصائص مختلفة عن كلا الجيلين، وهم مواليد الفترة بين 1977م و1983م، وهي فئة عاشت طفولة محافظة باختيارات محدودة، ثم انتقلت فجأة إلى العصر الرقمي، وأفراد هذه الفئة لا يحملون انكسارات واكتئاب وتشاؤم جيل إكس، كما لا يجدون البهجة والانطلاق والثقة التي لدى الجيل واي).
6– جيل واي (جيل الألفية)
وهم مواليد الفترة بين 1980م حتى 1994م. وتتراوح أعمارهم بين 26 إلى 40 عامًا.
يتميز هذا الجيل بالبراعة في التعامل مع المنصات التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي، ويميلون إلى مشاركة حياتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، ويقدّرون الصداقة ويريدون البقاء على اتصال مع معارفهم وأصدقائهم، ويميلون إلى التفاعل مع الإعلانات والعلامات التجارية. يفضّلون منصات فيسبوك وإنستجرام ويوتيوب، مع أولوية لفيسبوك لمعرفة أخبار أصدقائهم. ويثقون في المراجعات والترشحيات والإعلانات التقليدية، وطريقة تفاعلهم مع المنشورات تدل على ضرورة التركيز على صورة العلامة التجارية للمنتَج، والمراجعات، والمحتوى.
أكثر من تزوجوا من هذا الجيل، تزوجوا في سن متأخرة، وإن كان عددهم لا يكاد يصل نصف أبناء هذا الجيل، وتتأخر قراراتهم بالإنجاب أطول من غيرهم.
7– جيل زي. (جيل ما بعد الألفية)
وهم مواليد الفترة بين 1995م حتى 2015م. وهم الذين يقل عمرهم حتى الآن عن 26 عامًا.
يتميز هذا الجيل بالبراعة في أمور التكنولوجيا، إذ لا يعرفون العالم ولا يتصوّرونه بدون إنترنت، حيث ولدوا ونشأوا خلال مرحلة تطوّر رقمي متسارع، نتجت عنها الثورة الصناعية الرابعة، التي يمكن تأريخها اعتبارًا من 2016م، حيث فتحت آفاق غير محدودة لتكنولوجيات ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي وتطبيقات الداتا الهائلة وإنترنت الأشياء وسلاسل الكتل وغيرها. كما يتميز بوجود وعي مالي، واستخدام لوسائل الدفع الإلكتروني عبر الإنترنت.
يستخدم هذا الجيل وسائل التواصل الاجتماعي عادةً للترفيه، وليس لأغراض اجتماعية، ويحبون مشاركة كل شيء، وخاصة الميمز، إلى جانب إفراطهم في تخطي المنشورات والإعلانات. تعتبر منصاتهم المفضّلة هي يوتيوب وإنستجرام وسناب شات وتيك توك، ويقضون الوقت الأكبر على تيك توك ثم إنستجرام وسناب شات، وعند البحث يختارون يوتيوب بدلاً من جوجل.
عادةً، تجتذبهم الصور ومقاطع الفيديو الجيدة والعناوين الجذابة والإيموجي، بسبب صعوبة جذب انتباههم.
8– جيل ألفا.
وهم مواليد الفترة ما بعد 2016م، أي مواليد ما بعد الثورة الصناعية الرابعة، حيث تقنيات إنترنت الأشياء والبلوك تشين والبيج داتا والذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية المتطوّرة. وتخبرنا مؤشرات الدراسات المستقبلية عن الاهتمام المصروف من واضعي السياسات لهذه الجيل من خلال الخطط المستقبلية القومية المتنوّعة التي تتشارك في ميزة أنها ستتحقّق في الوقت الذي سيكون فيه هذا الجيل متجهّزًا لاستلام الدفّة.
فوائد التعرّف على تصنيفات الأجيال
– يفيد في التسويق التجاري والإلكتروني من خلال معرفة التقسيم الديموغرافي، والأجيال الأكثر توافرًا ويمكن استهدافها.
– كما يفيد الإدراك بوجود الفجوة بين الأجيال ومسبباتها وتأثيراتها، في الحدّ من صراعات الأجيال، وإيجاد صيغة للتفّهم والتفاهم.
– توفير الوقت والمجهود عبر إيجاد الصيغة المناسبة لمخاطبة كل جيل وفق ما يناسبه وما يهتمّ به أو يتطلّع إليه.
– كما يفيد في بناء الخطط التسويقية المعتمدة على إستراتيجيات طويلة المدى تستهدف جيلاً بعينه، مع مراعاة التطورات المواكبة.