الطريق إلى قلعة الجواسيس
ترجع أوائل العمل الاستخباراتي في روسيا في العصور الحديثة، إلى جهاز “الأوبريتشنينا”، الذي أنشأه الدوق إيفان عام 1565م، للسيطرة على موسكو، واشتهر هذا الجهاز المكوّن من 6 آلاف رجل، بسمعته السيئة وممارساته الوحشية، قبل أن يقوم إيفان بتصفية الجهاز في 1572م خوفًا من خطورتهم، حتى عليه شخصيًا.
وكان أول ظهور لجهاز مخابراتي بمعناه المؤسساتي الحديث، في القرن التاسع عشر، حين أسس قيصر روسيا “ألكسندر الثاني” جهاز “الأوتشرانا” كهيئة للبوليس السياسي ، وبدأ الجهاز ضعيفًا نسبيًا، إلا أنه في نهاية القرن التاسع عشر تعملق وبلغ عدد عملائه 100 ألف عميل، ينفذون مهامًا داخل وخارج روسيا لحساب الحكومات القيصرية.
بعد قيام الثورة البلشفية في أكتوبر 1917م، أنشأ رجال الثورة “لجنة الطوارئ لعموم روسيا”، وهي اللجنة التي انبثقت عنها جميع أجهزة الأمن السوفييتية لاحقًا، وكانت مهمتها جاسوسية خالصة تعمل على اختراق صفوف القوى المعادية للثورة، ووقف أعمال التخريب والمؤامرات الخارجية ضد الدولة. ومع الوقت تطوّرت أجهزة مكافحة الاختراق والتخريب بشكل أكثر فاعلية وتخصصًا، فظهرت “المخابرات المضادة”، وإدارة تعقب عملاء المخابرات الأجنبية، ثم تشكّلت منظمة المخابرات السوفييتية المعروفة بـ”التشيكا”.
تعتبر المدارس الجاسوسية الروسية، العمل المخابراتي دراسةً وعلمًا وفنًا وخبرةً، لذا انصبّ الاهتمام على إعداد الجواسيس إعدادًا فريدًا ليؤدوا مهماهم الصعبة على أفضل وجه ممكن. كما تميزت عمليات المخابرات الروسية دائمًا بالسرية المطلقة والعمل في الخفاء، وصعوبة اكتشاف أو تعقب آثارها. وأشارت بعض التقديرات إلى أن عملاء جهاز المخابرات السوفييتة في الخارج قاربَ ربع مليون عميل حول العالم.
تغلغل المخابرات السوفييتية في الدول المختلفة
كان أبرز أهداف جهاز الاستخبارات السوفييتية (K.G.B)، مساعدة الدولة على تنفيذ سياساتها الداخلية والخارجية، والقيام بالمهام الخاصة التي تحقق هذه السياسات، التي تأتي على رأسها: سدّ النقص والحاجة الملحّة للاتحاد السوفييتي لتعويض الفارق بينه وبين منافسيه على الساحة الدولية.
وعلى هذا الأساس وضعت المخابرات السوفييتية عددًا من الأهداف الاستراتيجية:
1- الحصول على تصميمات القنبلة الذرية بأي ثمن، وبأسرع وقت ممكن.
2- الحصول على تكنوولجيا الأسلحة المتطورة (دبابات، ومركبات، وصواريخ)؛ لتحقيق التفوق السوفييتي على المنافسين.
3- الاهتمام المتعاظم بمجال الطيران، خاصة مع الطفرة الأمريكية في صناعة الطائرات النفاثة فائقة السرعة.
4- اختراق مخابرات المنافسين والأعداء، وأجهزتهم الأمنية.
5- تحسين صورة الإيديولوجيا الشيوعية، واجتذاب العالم نحوها بالوسائل المختلفة.
6- احتذاب أكبر عدد ممكن من الدول الصغيرة والمتحررة من الاستعمار الغربي.
7- رصد أنشطة المخابرات الغربية في الاتحاد السوفييتي وحلفائه، والتصدي لهذه الأنشطة.
8- التجسس على المراكز الصناعية باعتبارها واحدة من أهم ركائز التفوق على الدول الأخرى.
وبناءً على هذه الأهداف الإستراتيجية، حفل تاريخ جهاز الاستخبارات السوفييتية (K.G.B)، بإنجازات متتالية في اختراق عدد من الدول ومؤسساتها وأجهزتها العليا، والتغلغل فيها، ويأتي على رأس القائمة: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، واليابان، وفرنسا، وألمانيا، وكندا، وسويسرا، وأستراليا، وبلجيكا، والسويد، وإسرائيل، وكثير من الدول الأخرى.
كي جي بي وسر القنبلة الذرية
في صيف 1945م، استقر الأمر داخل المخابرات السوفيتية على أنه تم اختراق البرنامج النووي الأمريكي بالكامل، وأن كافة أسراره أصبحت لدى الاتحاد السوفييتي. تمكن الجواسيس السوفييت من التوصل إلى أسرار القنبلة الذرية، وحصلوا على تفاصيل كاملة تملأ مئات الصفحات، من المعادلات والتفاعلات السرية، وذلك عبر العالم البريطاني آلان نون ماي، وهو أحد العلماء المشتغلين على المشروع، في المركز الرئيسي لتطوير أبحاث القنبلة الذرية في لوس ألاموس بولاية نيومكسيكو.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل حصل العملاء السوفييت على عينة من يورانيوم 253 المخصّب، وأرسلوها إلى موسكو عبر طائرة خاصة لتحليلها واستخدامها في تطوير البرنامج النووي السوفييتي.
كي جي بي وتفاهمات الحرب الباردة
وصل تأجّج الصراع في مرحلة الحرب الباردة، إلى إقدام المخابرات المركزية الأمريكية (C.I.A)، على تصفية ضابط استخبارات سوفييتي، في إحدى الدول الأوروبية، بالتزامن مع استهداف ضابط آخر داخل الولايات المتحدة. وهو ما دعا الاستخبارات السوفييتية إلى اتخاذ تدابير صارمة، أجبرت الجانب الأمريكي على اللجوء إلى اتصالات سرية غير رسمية، نتج عنها التوصل إلى اتفاق مفاده عدم تصفية أي عملاء من الجانبين جسديًا.
لاحقًا في الثمانينات، تأسست قناة اتصال دائمة بين (K.G.B) و(C.I.A) بمبادرة من ويليام كيسي مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وعلى إثرها انعقد أول لقاء سري آمن بين موظفي المخابرات الأمريكية والمخابرات السوفييتية، وأثمر هذا لاحقًا عن عمليات تبادل معلوماتية فائقة الأهمية والخطورة، عبر اجتماعات كانت تعقد بين الجانبين في فيينا عاصمة النمسا.
نهاية كي جي بي وتفكيك الجهاز
في عام 1991م، نظّم فلاديمير كريتشكوف، رئيس الاستخبارات السوفييتية (K.G.B)، محاولة للانقلاب على رئيس الاتحاد السوفييتي حينها ميخائيل جورباتشوف، وفشلت المحاولة، مما ترتّب عليه حلّ جهاز الاستخبارات، وتشكيل جهاز بديل عرف بـ”جهاز مكافحة التجسس الفيدرالي” (F.S.K).
المصادر
– موسوعة الأمن والاستخبارات في العالم، ملف الاستخبارات السوفياتية، د. صالح زهر الدين، المركز الثقافي اللبناني، بيروت، 2003م.
– أسرار الجاسوسية السوفييتية (K.G.B)، عمرو يوسف.
– صراع الأقوياء.. الـ”كي جي بي” والـ”سي آي إيه”، على الرابط: https://arabic.rt.com/press/917095-%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A3%D9%82%D9%88%D9%8A%D8%A7%D8%A1-%D9%83%D9%8A-%D8%AC%D9%8A-%D8%A8%D9%8A-%D8%B3%D9%8A-%D8%A2%D9%8A-%D8%A5%D9%8A%D9%87/