الفنان والفيلسوف السينمائي أندريه تاركوفسكي. يُعرف تاركوفسكي باعتباره أيقونة سينمائية، ومن أهم المخرجين السوفييت، وأحد أبرز المخرجين العالميين. وصفت أفلامه بأنها مقطوعات شعرية سينمائية ذاتية متفرّدة، ودخلت أفلامه قوائم أهمّ 100 فيلم في تاريخ السينما. فيما يلي نتعرّف على أندريه تاركوفسكي، ورؤاه الفلسفية، ورؤيته للعناصر السينمائية المختلفة.
أندريه تاركوفسكي سيرة سريعة
ولد أندريه تاركوفسكي، في 4 أبريل 1932م، والتحق بالمدرسة الابتدائية في موسكو عام 1939م، ولكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية في العام ذاته، انقطع عن الدراسة. وفي تلك الفترة ظهر شغفه بالموسيقى والرسم.
والده هو الشاعر الروسي أرسيني تاركوفسكي، الذي سيوظّف أندريه قصائده في عددٍ من أفلامه لاحقًا. كان والده يترجم الشعر، وقد تأثر أندريه بوالده كثيرًا، وورث عنه هوسه بالشعر، الروسيّ والمترجم من لغات أخرى، بما في ذلك اللغة العربية.
اتجه تاركوفسكي لدراسة الجيولوجيا في قيرغيستان، وتخرج ومارس العمل كجيولوجي، قبل أن ينتسب إلى معهد جيراسوموف للسينما، ويخرج أوائل أفلامه القصيرة.
توفي أندريه تاركوفسكي في العاصمة الفرنسية باريس، في 29 ديسمبر 1986م، متأثرًا بإصابته بسرطان الرئة، وذلك عن عمر 54 عامًا.
العناصر السينمائية كما يراها تاركوفسكي
لا يتضمّن أي عنصر أو مكوّن واحد في الفيلم، أيّ معنى إذا كان معزولاً عن المكونات الأخرى. في كتابه ” النحت في الزمن”، الذي كتبه قبيل وفاته، وضع تاركوفسكي فصلاً كاملاً، ضمّنه آراءه وفلسفته حول العناصر السينمائية المتنوّعة، وسنتتبّع توضيحها بإيجاز.
الصورة السينمائية
بالنسبة لتاركوفسكي، فإن وظيفة الصورة يمكن تلخيصها فيما قاله جوجول “أن تعبر عن الحياة نفسها، لا عن الأفكار والبراهين بشأن الحياة”. فالصورة عنده لا تعبّر عن الحياة أو ترمز إليها، وإنما تجسّدها وتظهر فرادتها. الصورة تتمدّد نحو اللامتناهي وتقود إلى المطلق.
ما يسعى إليه تاركوفسكي بوضوح، هو تحديد مقايسس لنظامٍ ممكنٍ للصور، يستطيع معه أن يشعر بحريته وتفرّده. فالفنان لا يمكنه فهم شمولية الكون وغموضه، لكن الصورة الشعرية قادرة على التعبير عن تلك الشمولية.
بالتالي، فالصورة السينمائية مبنية على قدرة المرء على إبداء إدراكه الخاص تجاه شيء ما، ولا تطمح كل لقطة في الفيلم إلى أن تكون هي بذاتها صورةً للعالم.
يصرّ تاركوفسكي على أنه يجب على الفنان ألا يسمح لأيديولوجيته أو تحيّزاته أن تطغى على الصورة الفنية التي يقدّمها، ولا أن تكون قابلة للانكشاف بشكلٍ ساذج أمام الجمهور المتلقي.
الإيقاع
ما الذي يخلق إيقاع الفيلم؟ ليس المونتاج. وإنما الزمن المميز الممتد عبر اللقطات هو ما يخلق إيقاع الفيلم. الإيقاع لا يقرره طول الأجزاء بعد تحريرها، بل يحدده ضغط أو ثقل الزمن الذي ينزلق عبر هذه الأجزاء. الإيقاع ليس هو التعاقب القياسي الموزون للأجزاء المكونة للعمل الفني. حركة الزمن ضمن الكادرات هي التي تخلق الإيقاع.
الإيقاع ليس نتاج تفكير أو تأمل، وليس مركبًا على أساس نظري واعتباطي، بل ينشأ تلقائيًا في الفيلم استجابةً للوعي الفطري بالحياة عن المُخرج وببحثه عن الزمن.
المونتاج
لا يتقبّل تاركوفسكي فكرة أن المونتاج هو العنصر الأساسي المكوّن للفيلم. المونتاج يضمّ جنبًا إلى جنبٍ، لقطاتٍ مليئة بالزمن، وينظّم البناء الحيّ الموحّد المتأصّل في الفيلم. المونتاج الصحيح الوافي تولّف الصور فيه نفسها تلقائيًا. فالزمن الكامن في الكادر هو الي يُملي مبدأ المونتاج الخاص.
المونتاج لا يولّد، ولا يعيد خلق نوعية جديدة، وإنما يُظهر خاصيةً سبق وأن كانت متضمّنة في الكادرات التي يربطها ويوحّدها. المونتاج هو التجسيد الجوهري لفلسفة المُخرج في الحياة.
السيناريو
لا ينظر تاركوفسكي إلى السيناريو بوصفه نوعًا أدبيًا. فالسيناريو كلّما كان سينمائيًا أكثر، قلّت إمكانية اعتباره أدبًا. وإذا كان السيناريو قطعةً أدبيةً رائعةً، فمن الأفضل له أن يبقى نصًا أدبيًا. لا يفهم تاركوفسكي لماذا يرغب شخص ذو موهبة أدبية في أن يكون كاتب سيناريو، بصرف النظر عن الأسباب المادية. كاتب السيناريو مشاركٌ في التأليف، وبالتالي هو مشاركٌ في تصوّر المخرج.
السيناريو نفسه لا يضمن جودة العمل المنجّز. السيناريو بناءٌ حيّ هشّ متغيّر دائمًا. فقط، يقبل تاركوفسكي شكل السيناريو في حالة إذا كان مجرّد خطة مفصّلة للفيلم، وإذا تضمّن فقط ما سوف يكون قابلاً للتصوير وكيفية تصويره أو إنجازه، وعندئذٍ سيكون لدينا ما يمكن اعتباره نسخةً ذات بصيرة للفيلم المنجّز، والذي لا علاقة له بالأدب.
الممثل
إذا أخفق المخرج في أن يبيّن للمثل كيف يرى الشخصية، وكيف ينبغي تأويل تلك الشخصية، فإن مفهومه سوف يبدأ فورًا في الجنوح. إذا انطلق الممثل في بناء دوره الخاص من تلقاء نفسه، فإنه سوف يضيّع الفرصة في تقديم أداءٍ تلقائيٍ لا إراديٍ ضمن الشروط التي يضعها الفيلم في تصميمه وأهدافه.
من الأفضل أن ينظّم المخرج أجزاءَ من انفعالات الشخصيات، وأن يجد الممثلون أنفسَهم بداخلها أثناء التصوير. فأمام الكاميرا، يجب على الممثل أن يوجد على نحوٍ صادقٍ وفوريّ في الحالة التي تحددها الظروف الدرامية.
الشيء الوحيد الذي يتعين على الممثل السينمائي أن يفعله، هو أن يعبّر في ظروف معيّنة عن حالة سيكولوجية خاصة به وحده، وأن يفعل ذلك على نحو طبيعي، منسجم مع بنيته العاطفية والفكرية، وبالشكل الملائم له فقط. والممثل السينمائي الحقيقي هو القادر على قبول أي قانون من قوانين اللعبة التي توضع أمامه، بسهولة وعلى نحو طبيعي، وأن يظل تلقائيًا في ردود فعله تجاه أي وضع مرتجل.
الموسيقى والأصوات
يوظف تاركوفيسكي الموسيقى بدرجة تتجاوز تكثيف الانطباع بالصورة البصرية، إلى تقديم إيضاحٍ موازٍ للفكرة ذاتها. الموسيقى بالنسبة له لازمة، مثل اللازمة الشعرية. أيضًا، يمكن استخدام الموسيقى لإحداث تحريف ضروري للمادة البصرية في إدراك الجمهور، لجعلها أكثر كثافة وثقلاً أو أكثر خفة واحتمالاً.
أندريه تاركوفسكي فيلسوفًا
تموضع أندريه تاركوفسكي في مكانةٍ خوّلت له أن يمارس الفلسفة من خلال الفن، وأن يمهّد للفنّ عبر الفلسفة، ممارسةً وتنظيرًا، فنيًا وشِعريًا وسينمائيًا. نتناول أبرز المفاهيم الفلسفية التي اشتبك معها أو تناولها تاركوفسكي.
الزمن عند تاركوفسكي
بالنسبة لأندريه تاركوفسكي، فالسينما هي الفن الذي يعطي الزمن شكلاً مرئيًا حقيقيًا، وذاتيًا على نحوٍ مكثّف. السينما قادرة على تسجيل الزمن في علامات ظاهرية منظورة تميّزها المشاعر. هكذا يصبح الزمن هو الأساس الفعلي للسينما، مثله مثل الصوت في الموسيقى واللون في الرسم.
يصير الزمن محسوسًا وحقيقيًا عندما تشعر بشيءٍ ما هام، وصادق، وذي معنى، ويستمر إلى ما بعد الأحداث على الشاشة.
دور الفنان مع الجمهور
ينطلق تاركوفسكي من قاعدةٍ صادمة، وهي أن الفنان ليس حرًا أبدًا. ولا توجد جماعة من الناس تفتقر إلى الحرية أكثر من الفنانين. فالفنان مكبّل بموهبته، وبشعوره بأنه مدعوٌ للقيام بأمرٍ ما. وكل فنان يرجو أن يتحقق اللقاء بين عمله والجمهور.
العلاقة بين الفنان والجمهور هي عملية متبادلة، ووعي المجتمع المتنامي بدوره يُوجِدُ مخزونًا من النشاط، والذي فيما بعد سوف يُفضي إلى ولادة فنان جديد. والفنان غير مسئول عن السياسة الثقافية، وإنما عن مستوى أعماله هو.
بالنسبة لتاركوفسكي، فحين يكون الجمهور غير مدركٍ للأسباب التي جعلت المخرج يستخدم منهجًا أو طريقةً معينة، فإنه ينزع إلى تصديق واقع ما يحدث على الشاشة، ويؤمن بالحياة التي يرصدها الفنان.
مسئولية الفنان
الاتصال بين مخرج الفيلم والجمهور: استثنائي فريد. لدى الفنان مسئولية تجاه جمهوره، متمثلةً في غرس وتغذية الذوق؛ لأن الجمهور العام من السهل أن يتغذّى على شيء مصطنع أو بديل. الفنان، في جوهر الأمر، لا يمارس مهنته من أجل إخبار شخصٍ ما عن شيء ما، لكن كتوكيد على رغبتهم في خدمة الناس.
تاركوفسكي مقتنعٌ بأن الفنان لو نجح في فعل شيءٍ ما، فإنه يحقق ذلك لأنّ هذا هو ما يحتاجه الناس، حتى ولو كانوا غير واعين له في حينه.
مهمة الفنان أن يعيد خلق الحياة: حركتها وتناقضاتها وفعاليتها وتعارضاتها، وأن يكشف كل ذرة من الحقيقة التي يراها، حتى وإن لم تكن مقبولة لدى كل شخص. وليس للفنان حق في تبني فكرةٍ لا يلتزم بها اجتماعيًا. وفي النهاية فالفيلم يباع مثل أي سلعة؛ لذا يجعل هذا مسئولية الفنان أكبر تجاه “بضاعته”.
الجمال
بالنسبة لأندريه تاركوفسكي، فالجمال يكمن في حقيقة الحياة التي استوعبها الفنان وتمثّلها وأفصح عنها بطريقة جديدة، وفي إخلاص وانسجام مع رؤيته الشخصية.
والفن عندما يتجرّد من القيم الروحية، فإنه يحمل بداخله مأساته الخاصة، حتى في اعترافه بالخواء الروحي للأزمنة التي يعيش فيها.
أفلام أندريه تاركوفسكي
بطبيعة الحال، يعدّ تاركوفسكي أحد أعظم المخرجين وأكثرهم تأثيرًا في تاريخ السينما العالمية، وقد أدرجت 7 من أفلامه في قائمة أفضل 100 فيلم على مرّ التاريخ، وفق مجلة المعهد البريطاني للسينما.
- فيلم The Killers، إنتاج عام 1956م.
- فيلم There Will Be No Leave Today، إنتاج عام 1959م.
- فيلم The Steamroller and the Violin، إنتاج عام 1961م.
- فيلم Ivan’s Childhood، إنتاج عام 1962م.
- فيلم Andrei Rublev، إنتاج عام 1966م.
- فيلم Solaris، إنتاج عام 1972م.
- فيلم Mirror، إنتاج عام 1975م.
- فيلم Stalker، إنتاج عام 1979م.
- فيلم Nostalgia، إنتاج عام 1983م.
- فيلم Voyage in Time، إنتاج عام 1983م.
- فيلم The Sacrifice، إنتاج عام 1986م.
جوائز أندريه تاركوفسكي
- جائزة الأسد الذهبي من مهرجان البندقية السينمائي، عن فيلم (Ivan’s Childhood).
- جائزة الأكاديمية البريطانية لفنون الفيلم والتلفزيون.
- جائزة لينين.
- جائزة العامل الفني المكرم في جمهورية روسيا السوفيتية الاتحادية الاشتراكية.
- جائزة فنان الشعب لجمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية.
مصادر
- النحت في الزمن، أندريه تاركوفسكي، 1986م، ترجمة أمين صالح، 2006م.