لا يستطيع الإنسان العيشَ حقًا إلا إذا عرف أن لحياته معنىً. حتى الأشياء المختلفة التي نتعامل معها، نتعامل معها باعتبار ما تعنيه بالنسبة لنا. والأمر ذاته ينطبق على الحقائق المحيطة بنا، إننا نتعرّف عليها من خلال المعنى الذي نلصقه بها، وليس باعتبار ما هي عليه حقًا، ولا يوجد إنسانٌ يمكنه أن يهرب من المعاني. بهذه الأفكار، يبدأ الكتاب المؤسِّس (معنى الحياة)، من تأليف ألفريد آدلر، وبترجمة متميزة لعادل نجيب بشرى، في التمهيد لإيجاد معنى الحياة من خلال علم النفس الفردي.
معنى الحياة ككتاب مؤسس لعلم النفس الفردي
مؤلّف الكتاب “ألفريد آدلر”، عالم نفس مشهور، لا يقلّ شهرةً وتأثيرًا عن سيجموند فرويد وكارل يونج، وهو مؤسّس (علم النفس الفردي)، الذي يتبنّى النظرة الشاملة لشخصية الفرد وتمايزها، وإيجاد معنى لحياة الفرد عبر ثلاث محاور (العمل، العلاقات الاجتماعية، الحبّ والزواج)، اعتمادًا على التفاعلات اليومية التي تحدث بين الجسد والعقل.
ينطلق آدلر عبر 12 فصلاً دسِمين للغاية، يستعرض ويؤسّس لرؤية مدرسته في تؤدة وإحكام، في توليفة عبقرية بين علم النفس والفلسفة وفروع معرفية أخرى، وممارسة نقدية طريفة ولاذعة لبعض منهجيات فرويد في التحليل النفسي، والممارسات الرأسمالية والطبقية، والمؤسسات الصناعية والتعليمية، ونقد الاشتراكية القومية (التي تجسّدت في الصورة النازية لاحقًا).
بالتالي، يمنحك الكتاب خبرةً خاصّة في الانكشاف النفسي على مستوى الذات والعلاقات والمشاعر والانفعالات، ويعيد تشكيل نظرتك نسبيًا لدور العائلة والمجتمع والمؤسسات فيما أنتَ عليه، ويحشد لك خبراتٍ وتجاربَ متنوّعة بطريقة سلِسة متبصّرة، ويضع يدك على مساراتٍ لاستكشاف وإيجاد المعنى الكامن في حياتك وفي ما أنتَ عليه.
توافقات المعارف المختلفة مع معنى الحياة
مما يلفت النظر في الكتاب فقرات كاملة، تبدو متماسّة أو مشتبكة مع المدرسة الوجودية، خصوصًا في التعامل مع مشكلة الحياة ومشكلة الحبّ، وتستحضر معها مقولاتٍ كثيرةً تضمّنتها سلسلة “مشكلات فلسفية” للراحل زكريا إبراهيم، وكذلك كتابه “سيكولوجية المرأة”.
أيضًا، يظهر توافقٌ لافتٌ بين كلام ألفريد أدلر في الفصل الأول من “معنى الحياة”؛ في قوله إن المعني الحقيقي للحياة لدى “الفرد” يتحقق من خلال “التعاون”، بدايةً من استعداده لتطوير نفسه بطريقة تجعله قادرًا على المساهمة في تحقيق مصلحة الآخرين، وقادرًا على تطوير شعوره الاجتماعي.
هذا الكلام متوافق مع رؤية الفيلسوف الهندي محمد إقبال، في فلسفته المركّبة عن “الذات”، القائمة على محورين: (الأول) أن طريق تحقيق الذات المفردة “الفرد” وقدرتها واكتمالها: يكون من خلال معرفة الإنسان ذاته والاعتزاز بها، وفصلها تمام الفصل عن ذات الإله، و(الثاني) أن تطوّر الذات الكليّة “المجتمع” وارتقاءها، طريقه هو [تطوّر الذات المفرّدة “الفرد” + إنكار جزئي للذات من خلال اندماجها عمليًا وشعوريًا مع الآخرين]. فلسفة إقبال [التي هي تطوير نقدي لفلسفات صوفية هندية وتركية وفارسية]، توسّع في شرحها عبر ديوانيه (أسرار الذات، ورموز نفي الذات)، المنشورَين في 1915 و1918م على الترتيب.
أيضًا تأصيل آدلر للاستجابات الثلاث إزاء الخوف (التجمّد، الهروب، القتال/المقاومة/ردّ العدوان)، يُحيل على خبرةٍ شبيهةٍ – غير متطابقة معه تمام التطابق-، نقلها ابن القيم في كتابه “الفروسية”، عن عمرو بن معد يكرب: “الفزعات ثلاث؛ فمَن كانت فزعته في رِجليه فذاك الذي لا تُقِلُّه رِجلاه [التجمّد]، ومَن كانت فزعته في رأسه فذاك الذي يفِرُّ عن أبويه [الهروب]، ومَن كانت فزعته في قلبه فذاك الذي لا يُقاتِل [نظيرهما، ومعكوسه: القتال]”.
إلى جانب توافقات وارتباطات أخرى متنوّعة، لن نتوسّع في استقصائها، لكنها تُظهِر التوافق الواضح بين الثقافات والمرجعيات المختلفة عند تناول الإنسان من حيث كونه (إنسانًا).
خلاصات مهمة من كتاب معنى الحياة
فيما يلي بعض الخلاصات المهمّة والمفيدة جدًا من كتاب (معنى الحياة) لألفريد أدلر، لا تغنيك عن قراءته، وإن كانت تخبرك ببعض قيمة محتواه:
– إذا اعتقد شخصٌ ما أنّ بإمكانه تطوير شخصيته بمعزل عن الآخرين، بنيّةٍ متعمّدة في عدم المساهمة في تحسين حياة الآخرين، فإنه ببساطة سيصبح ذا شخصية متسلطة غير محبوبة من الجميع.
– مهمّة علم النفس هي أن يمدّنا بالقدرة على فهم “المعاني”، والطرق التي تؤثر بها هذه المعاني على أفعال البشر ومقدّراتهم.
– إذا ما فشل الأب والأم في مهمتهما الأولى (كسب اهتمام وثقة وحب وتعاون الطفل)، فسيكون من الصعب جدًا على الطفل أن يكتسب اهتمامًا حقيقيًا بالمجتمع، أو أن يشعر حتى بعضويته فيه.
– الخبرة التي مرّ بها الفرد في حد ذاتها “غير مهمّة”. المهمّ هو أن هذه الخبرة ظلّت في الذاكرة وساعدت على بلورة المعنى المنسوب للحياة، باعتبارها دافعًا للتذكّر والتأكيد على معنى الحياة لدى الشخص.
– محور الاهتمام الحقيقي في علم النفس الفردي، هو التفاعلات اليومية التي تحدث بين الجسد والعقل. فمثلاً، الحركة الهادفة دليل على وجود عقل يشغّلها، وبالمقابل العقل محكوم بمحدودية قدرة هذا الجسد على الحركة، وهكذا.
– كل الأخطاء النفسية، هي في جوهرها: أخطاء في اختيار الطريق الموصل إلى الهدف؛ ذلك الهدف الذي يمنح الحركة معناها، لدرجة تفرض بقاء هذا الهدف واضحًا وثابتًا في أغلب الأوقات.
– إذا تمكّنا من تطوير التقنية السليمة، وتطوير الدافع السليم لدى الطفل بالتغلّب على صعوبة ما، وبالتدريب المستمر والتمرين، فإنه يمكن تحويل ما يبدو وكأنه عيب، إلى ميزة.
– الطفل الذي يقاوم طريقة علاج الآباء لمشكلته، سيجد دائمًا الطريقة لمهاجمة الآباء في “أكثر نقاط ضعفهم حساسيةً”.
– خلف جميع أنماط السلوك التي تحاول أن تُظهر شعورًا بالتفوق، تكمُن عقدة نقص تدعو الشخص إلى بذل مجهودات خاصة لإخفاء مشاعر النقص التي يعاني منها.
– تظهر عقدة النص بوضوح في وجود مشكلة يكون الفرد غير مستعدٍ لها أو مهيّأً لمواجهتها، وهي تؤكّد قناعته بعدم قدرته على حلّها.
– الأفراد الذين يتمكنون من التحكم الحقيقي في مشاكل الحياة، هم وحدهم الذين يُظهرون – أثناء سعيهم الحثيث نحو تحقيق التفوق- القدرة على المساهمة في تحسين حياة باقي أفراد المجتمع.
– الذكريات تعطينا فكرةً واضحةً عن الطريقة التي يتعامل بها معظم الناس مع الحياة، حين يتّخذون من انطباعٍ واحد ذريعةً لتبرير الكثير من أفعالهم، ويستنتجون ويبنون عليه، ويتصرّفون كما لو كانت أفعالهم حقائق لا جدال فيها.
– الحلم ما هو إلا ناتجٌ من نواتج أسلوب حياة الفرد، ودائمًا ما يتفق معها تمام الاتفاق، ويثبت صحّتها، ويدافع عنها ضد المنطق وضد حقائق الواقع المحيط بالفرد، بل وضد الفطرة السليمة.
– الأفراد الذين لا يحبّون أن يقعوا تحت تأثير مشاعرهم، والذين يرغبون أن يسير كل شيءٍ في حياتهم بطريقة علمية، هؤلاء لا يحلمون غالبًا، بل إن بعضهم لا يحلم على الإطلاق.
– ما يمرّ به الأطفال من خبرات، لا يُملي عليهم بالضرورة الأفعال التي يقومون بها؛ ولكن ما يحدّد شكل وطبيعة هذه الأفعال هو الاستنتاجات التي استخرجوها من مرورهم بهذه الخبرات.
– على الأم بعد أن تنجح في توثيق صلاتها بأطفالها أن تعمل على توسيع اهتماماتهم حتى تشمل الأب أيضًا، وصولاً إلى توجيه اهتمامهم نحو بيئتهم الاجتماعية، وإلا سيعاني الطفل من انسدادٍ خطيرٍ في مشاعره وعجزًا عن تطويرها.
– المبالغة في التأكيد على مشكلةٍ ما وإعطائها أهميةً أكثر مما تستحقه، يمنع من التعامل مع هذه المشكلة بفاعلية، ويؤدّي إلى إهمال بقية المشاكل.
– أفضل الطرق لتدريس أي مادة، هو ربطها بكل جوانب الحياة الممكنة، حتى يستطيع الطفل أن يرى الهدف من تدريس هذه المادة والقيمة العملية لما يتعلّمه.
– أقوى العوامل المؤثرة على نمو وتطوّر ذكاء الطفل وقدراته العقلية، هو الاهتمام القويّ والمستمر بكل ما يفعله الطفل في البيت والمدرسة، في عمله وفي أوقات فراغه، والاهتمام بكل مَن حوله مِن أفراد أيضًا.
– هناك صلة مباشرة بين أخطاء الطفولة وبين الفشل الذي يحدث للبالغين، وفي بعض الحالات الحادة فإن الطفل الذي لم يتعلّم التعاون، قد يصبح عصابيًا أو مدمنا للخمور أو مجرمًا أو ميالاً للانتحار في المستقبل.
– المراهقة بالنسبة إلى معظم الشباب الصغار، تعني شيئًا واحدًا: أنه يجب عليهم إثبات أنهم لم يعودوا أطفالاً.
– الأسلوب الوحيد لتقويم المجرمين، هو اكتشاف ما حدث لهم خلال مرحلة الطفولة، ومَنَعَهم من أن يتعلّموا التعاون.
– كل المجرمين يتّصفون بنوعٍ من الجُبن؛ فهم يحاولون تجنّب المشاكل التي يشعرون بأنهم لا يملكون القوة الكافية على حلّها. ويمكننا أن نعاين جبنهم هذا في الطريقة التي يمارسون حياتهم بها، والجرائم التي يرتكبونها.
– يكون نمو الأطفال وتطوّرهم أكثر بساطة إذا ما عرفوا من البداية طبيعة العمل الذي يحبون أن يقوموا به مستقبَلاً، ومهمّتنا هنا أن نحاول التعرّف على الدوافع الكامنة وراء اختياراتهم، وتوجّهاتهم نحوها، وطريقتهم لتحقيقها.
– الأم هي المؤثر الأول والرئيس في نمو وتطوير الحياة الوظيفية لطفلها، وجهودها المبذولة في أول خمس سنوات من عمر الطفل لها تأثير حاسم في نشاطاته الأساسية في مرحلة البلوغ، ثم تأتي خطوة التدريب من خلال المدارس.
– كل الحركات السياسية والاجتماعية يجب الحكم عليها فقط من خلال قدراتها على تطوير وتحسين قدرات أفراد المجتمع على التعاون وزيادة الاهتمام بالآخرين.
– عندما نفهم شيئًا ما، فإن هذا يعني أننا قد استوعبناه بطريقة مشتركة بيننا وبين الآخرين، فكأننا ربطنا أنفسنا بواسطة مادةٍ مشتركة مع الآخرين، واستسلمنا للخبرة الشائعة بين كل البشر.
– إذا ما اهتمّ الأفراد برفاهية ورخاء المجتمع من حولهم، والبشر ككلّ، فسيحاولون حلّ مشكلة الحب والزواج كما لو كان صالح الآخرين يعتمد على هذا الحلّ.
– يتحقّق التعاون الكامل بين الرجل والمرأة، عندما يهتمّ كلٌ منهما بالآخر أكثر من اهتمامه بنفسه، وهذا هو الأساس الذي يحقّق المساواة تلقائيًا، ويمكن بناء الحبّ والزواج عليه.
– من الضروري عدم الكذب على الأطفال أو تجنّب أسئلتهم، بل يجب علينا فهم الدوافع الكامنة وراء هذه الأسئلة، وأن نقدّم شرحًا وتفسيرًا يغطّي هذه الأسئلة ولا يتجاوزها أبدًا، وبالقدر الذي نعتقد أن فهم الأطفال يسمح به.