تناولنا في الجزء الأول عرض محتويات الفصلين الأول والثاني من كتاب “علم الاستراتيجية” للدكتور ألبير رحمة، ونكمل عرض باقي فصول الكتاب عن أهم مواضيع وقضايا الاستراتيجية التي يمكن اعتبارها أحد الفروع المعرفية للعلوم السياسية.

الفصل الثالث: الاستراتيجية كعلم

القسم الأول: مجال علم الإستراتيجية

بالنظر إلى الاستراتيجية باعتبارها علمًا نجدها تتقاطع مع عدد كبير من العلوم، فهي بحاجة للعلوم التجريبية من أجل تطوير وتقييم قاعدتها التقنية، وبحاجة إلى الاقتصاد لتطوير إمكانياتها وأدواتها، وتتقاطع مع السياسة في تحديد الأهداف والغايات الكبرى، ومع الاجتماع من أجل وضع الصراع على أي مستوى في سياقه العام، وأخيرًا مع التاريخ لكونه معينًا لا ينضب من التجارب والأفكار التي تُساهم في تطوير الاستراتيجية.

 علم عسكري أم علم إستراتيجي ؟

إذن فالاستراتيجية ليست مجالًا مستقلًا، فهي فرع من مجال ضهم جدًا، ألا وهو قيادة الحرب، ولنكون أكثر دقة  فلنقل “قيادة الصراع”، كانت الاستراتيجية في الماضي تقتصر على الامور العسكرية، والذي تغير وتبدل بمرور الزمان، فمن فن الفروسية إلى فن قيادة الوحدات، ثم إلى فن الحرب، والحاصل أنه لا يمكن فصل الاستراتيجية المعاصرة عن كل هذا التاريخ العريق، غير أنه لا يمكن أن نقصرها أيضًا على الجانب العسكري، فلا يمكن –وفق منظري العلم الحاليين- أن نحدد مجالات وحقل البحث في الاستراتيجية من خلال الاستناد فقط على مراجع أو مؤلفات استراتيجية خالصة، بل لابد من تبني رؤية تنطق من العلم العسكري وصولًا إلى علم الاستراتيجية.

هل هناك عالمية لعلم الإستراتيجية؟

الحرب سلوك إنساني وقعت فيه مختلف الحضارات، لكن لا يعني هذا أن جميع هذه الحضارات أنتجت أدبيات تساهم في التأسيس لعلم الاستراتيجية، فعلم الاستراتيجية لديه تاريخ لكنه تاريخ غير متصل، فهناك من المساهمات الحضارية التي ساعدت في رسم ملامح علم الاستراتيجية ومنها ما لم يضف إليها شيئًا !

دور العوامل الاجتماعية في علم الإستراتيجية

أثرت العوامل الاجتماعية تأثيرًا بالغًا في تطور الفكر الاستراتيجي، فعادة ما تظهر الأفكار المتعلقة بالاستراتيجية في سياق استجابات لتحديات واقعية، فالانخراط في الحروب يعد دافعًا قويًا لتطور الفكر الاستراتيجي، كما أن عملية التراكم المعرفي في الفكر الاستراتيجي تتطلب انفتاحًا بين الثقافات المختلفة، وتتطلب كذلك عقليات لها سمات معنية، أبرزهما القدرة على التجريد، والتصرف بطريقة عقلانية، ففي نهاية الرجل الاستراتيجي لا يبحث سوى عن تحقيق الانتصار وإلحاق الهزيمة بالعدو.

خطة رئيس الأركان الألماني ألفريد فون شليفن التي اعتمدت في أوائل القرن العشرين
خطة رئيس الأركان الألماني ألفريد فون شليفن التي اعتمدت في أوائل القرن العشرين

القسم الثاني : نماذج من العلوم الإستراتيجية

هناك عدة نماذج للفكر الاستراتيجي، هذه النماذج تتنوع زمانًا ومكانًا، فقديمًا هناك نموذج الفكر الصيني القديم ويمثله صن تزو وكتابه ذائع الصيت “فن الحرب”، وهناك التراث الاستراتيجي اليوناني الذي امتلم العديد من التحليلات التكتيكية والاستراتيجية في عصرها، وهناك مؤلفات الفكر البيزنطي التي تحدث عن المؤسسات العسكرية، وفي الفكر الإسلامي هناك مؤلفات تعود إلى العصر المملوكي وقد قيل أن هناك مؤلفات عُنيت بالاستراتجية وفن الحرب غير أنها فقدت في بغداد على يد المغول.

أما في العصر الحديث فلدينا ميكافيللي وكتابه فن الحرب الذي أصبح ركنًا أساسيًا للآداب العسكرية فيما بعد، وتتابع تطور الفكر الاستراتيجي الأوربي فيما بعد، البريطاني والفرنسي والألماني، والملاحظة الأهم بخصوص القرن السادس عشر أن الجوانب غير العسكرية –السياسية والاقتصادية- قد لعبت دورًا مهمًا في الفكر الاستراتيجي.

على اليمين ميكافيللي صاحب كتاب فن الحرب وعلى اليسار القائد العسكري النمساوي لازاروس فون شويندي
على اليمين ميكافيللي صاحب كتاب فن الحرب وعلى اليسار القائد العسكري النمساوي لازاروس فون شويندي

القرن السابع عشر تميز بإنتاجه الفكري حول التكتيك، وكانت المشكلة الأساسية هي فكرة “التخصص”، وظهور حاجة ضرورية إلى إيجاد آليات جديدة تتوافق مع نظام جديد للمعارك، وفي القرن الثامن عشر بدأ الفكر الاستراتيجي بالتفتح أكثر وأكثر نظرًا لحالة التعقيد المتزايد التي صاحبت فن الحرب، وساهمت ازدهار الطباعة والنشر إلى ازدهار الكتابات العسكرية وبدأ اهتمام عامة الناس بالمسائل والقضايا العسكرية .

في الفترة من 1789 إلى 1815 شهدت أوربا حروبًا لا تكاد تنقطع وهو ما انعكس بصورة إيجابية على الفكر الاستراتيجي إلى أن وصلنا لمرحلة ما يُسمى بـ”الفكر الاستراتيجي المعاصر”، وأبرز مفكريه هنري جوميني صاحب كتاب “معالجة التكتيك الكبير”، وكارل فون كلاوزفيتز صاحب كتاب عن الحرب، وصار كتابه مرجعاً لمعظم المفكرين الإستراتيجيين، وقلما نجد كتاباً استراتيجيا لم ينقل عنه .

رافق بدايات القرن العشرين نقاشات حادة حول التغيرات الجذرية للفن العسكري، مع هيمنة مسبقة للجانب العملي على النظري، لاسيما وقد انشغل القادة العسكريون بجبهات القتال وساحات المعارك التي لم تتوقف، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 أعيد بناء المفاهيم الإستراتيجية النظرية، وتعرضت معظم القناعات والتأكيدات السابقة للانهيار، وأخذ الكتّاب بالمذهب العسكري الجديد حول الجبهة المستمرة وتفوق العمل الدفاعي، وظهر آراء جديدة المجددين تبحث عن استثمار أحدث الإمكانيات الجديدة واستغلال الأسلحة الجديدة التي استخدمت أثناء الحرب وعلى رأسها الدبابات والطائرات.

أما الحرب العالمية الثانية فقد أحدثت انقلابًا جذريًا في المذاهب الاستراتيجية السائدة، فالخطط الاستراتيجية لم تعد توضع في نطاق دولة صغيرة أو كبيرة، بل أصبحت على مستوى العالم أجمع، وخرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية قوة عظمى تفوق غيرها من الدول، مقابل تراجع القوى الكبرى الأوربية، مما دفع الولايات المتحدة  للاهتمام المكثف بالميدان النظري للعلوم الإستراتيجية ولاقى هذا الاهتمام اتساعاً كبيراً على المستوى العالمي، فقد بدأت الجامعات الأمريكية بوضع البرامج البحثية التي تقرأ وتحلل الفكر الإستراتيجي الأوربي.

خريطة توضح استراتيجية المحيط الهادي التي تبنتها الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية
خريطة توضح استراتيجية المحيط الهادي التي تبنتها الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية

الفصل الرابع: الاستراتيجية كمنهج وطريقة

تناول الكتاب في هذا الفصل توضيح بعض المفاهيم والمناهج المستخدمة في دراسة الاستراتيجية والتفريق بين بعض المصطلحات التي قد تلتبس على القاريء.

فوضح الفارق بين النموذج السياسي والنموذج العسكري، فالأول يربط الاستراتيجية ببعد أسمى وأعلى هو البعد السياسي وبالقيادة العامة للحرب، بينما الثاني –النموذج العسكري- يتمركز ضمن إطار صارم من تنظيم الجهاز العسكري وقيادة العمليات والمعارك.

المذاهب الاستراتيجية

انتقل بعد ذلك الكاتب ليسرد أهم المدارس الاستراتيجية، وأولها المدرسة الكلاسيكية التي تركز على قيادة الحرب، وتجمع كل المنتمين إلى المفهوم التقليدي للحرب حول نموذج واحد وهو
“النصر”، والمدرسة الكلاسيكية الجديدة التي أعطت بعداً جديداً ووعياً للظروف والبيئة التي يمكن أن تحيط بالاستراتيجية، وقد بقي نموذجها يستند على مفهوم تحقيق النصر، ولكن أصبحت الحرب تدخل في أفق صراعي أكثر ضخامة واتساعًا، فقد يكون لدينا إستراتيجيات للسلام ليس فيها بعد عسكري.

صورة توضح تطور سلاح الطيران
تطور القوة الجوية

لدينا كذلك المدرسة الحديثة التي تطورت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقد تخلت هذه المدرسة عن نموذج النصر الذي تسعى الحرب لتحقيقه، وبدأت تقرأ الاستراتيجية كعلم اجتماعي لا يمكن وضع حدود له فقط داخل حقل الصراع و المعارك، وهذه المدرسة ظهرت نتيجة عمل لمدنيين ولم تقتصر على إسهامات العسكريين.

تشرشل وروزفلت وستالين خلال اجتماع للحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية
تشرشل وروزفلت وستالين خلال اجتماع للحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية

الاستراتيجية كمذهب ونظرية

تتألف الاستراتيجية كعلم من شقين متمايزين، النظرية والمذهب، فالنظرية تهدف إلى تعميق مفاهيم ومناهج معينة، وتريد الوصول إلى معرفة يمكن استخدامها بشكل عام وشامل، والمذهب Doctrine له عدة تعريفات، فهو وفق الموسوعة العسكرية السوفيتية ” نظام من وجهات النظر التي تتبناها الدولة خلل فترة زمنية معينة”، ووفق التعريف الأمريكي فهو ” الدليل من أجل قيادة الحروب والعمليات الأخرى غير الحروب” .

المناهج والطرق الاستراتيجية

الاستراتيجية شأنها شأن باقي الفروع العلمية الأخرى لها أصول معرفية ، ولديها أيضاً منهجيتها أو طريقتها، فهناك المنهج التاريخي الذي يهدف إلى الوصول إلى وضع قوانين أو قواعد محددة من خلال مقارنة التجارب التاريخية المتعددة، وهناك المنهج الواقعي يعمل على وضع وتحديد الاستراتيجيات وفق عمل وسير الوسائل الممكنة والمتاحة، وهناك المنهج العلمي (العقلاني) الذي ينطلق من أولوية وسائل الاستراتيجية حتى الوصول إلى القواعد التي ستتبع من خلال البراهين العقلية، ومن أجل تحديد الأجزاء الأكثر أهمية والتي يمكن استغلالها بشكل كبير.

أيضًا هناك المنهج الجغرافي الذي يهتم “بالوسط” أو البيئة التي تعمل فيها “الأداة”، وظهرت الجغرافية العسكرية التي تهتم بصفات الأرض والميدان، وأيضا الجيواستراتيجية التي  تهتم بالمسافات، والتي أصبحت عاملًا رئيسيًا في العصر الحالي، وهناك المنهج الثقافي الذي يهتم بالثقافة الاستراتيجية التي تُعرّف بأنها “مجموعة من المواقف والمعتقدات المفضلة داخل معهد أو مؤسسة عسكرية، فيما يتعلق بالهدف السياسي للحرب والطريقة الاستراتيجية الأكثر تأثيرا والتي يمكن الوصول إليها”، والمنهج التركيبي الذي يحاول الجمع بين أكثر من منهج، وأخيرًا المنهج الفلسفي الذي يهتم بجوهر الحرب، ويسعى إلى تجاوز الطبيعة المادية للأشياء من أجل فهم طبيعتها الفلسفية والمعرفية.

الفصل الخامس: الاستراتيجية كنظام

تناول الكاتب في هذا الفصل الحديث عن تطور الاستراتيجية وفق التغيرات السياسية والتكنولوجية لاسيما في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكيف أن القضايا الاستراتيجية والامنية لم تعد تقتصر على الجوانب العسكرية، بل صارت تتقاطع مع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعدما كانت الاستراتيجية التقليدية ترتبط بمسرح العمليات –أي ساحات القتال- حيث تدور المعارك، صار الآن التمييز صعبًا بين مجالي الحرب والسلام، وبعدما كانت التنظيرات الاستراتيجية تبع حصرًا من العسكريين، صعد نجم المدنيين مثل عالم الاجتماع ريمون آرون، والاقتصادي توماس شيلينج، وغيرهم.

الفصل السادس: الاستراتيجية والتكتيك والخطط والعلاقات الدولية

الاستراتيجية والتكتيك

تختلف الإستراتيجية عن كل من التكتيك والتخطيط والعلاقات الدولية، وفي الوقت نفسه هناك علاقة تبادلية لا انفصام فيها فكلاهما يكمل الاخر، ولكن هناك الحد الفاصل بينهما كما يلي: الاستراتيجية هي الالتزام بالخطة، أما التكتيك هو تكييف الخطة حسب الموقف، والاستراتيجية هي الخطة الشاملة للوصول الى الهدف النهائي في حين أن التكتيك هو خطة جزئية لتحقيق هدف جزئي، كذلك تعتبر الاستراتيجية طويلة وبعيدة المدى في حال أن التكتيك هو ردة فعل وقصير المدى، وفي حين توضع الإستراتيجية لنتائج مستقبلية نجد أن التكتيك لنتائج حالية، وأخيرًا فالاستراتيجية تقوم على التخطيط والتفكير المنطقي في حال التكتيك يقوم أكثر على الإبداع

الاستراتيجية والتخطيط

التخطيط إجمالاً هو وسيلة لادارة الموارد وآلية للتنسيق بين القرارات أو التصرفات التي تتخذها جهات أو وحدات في مختلف مستويات صنع القرار،يعد التخطيط امتدادًا للماضي باستخدام بياناته لمعرفة ما يجب أن يكون في المستقبل استناداً على التنبؤ، ويعمل التخطيط على تحديد حجم النشاط في المستقبل، ويعتمد على تطبيق الأساليب الكمية في التنفيذ، أما التخطيط الاستراتيجي فيُعد ضربًا من ضروب اختراق حجب المستقبل والغوص في عمقه لتحديد شكل المنظمة أو الدولة، ويعمل على تغيير نوعية النشاط وشكله، وكذلك يعتمد على التحليل والبحث عن الأفكار والابتكار والإبداع والتعمق في شخصية المنظمة أو الدولة.

الاستراتيجية والعلاقات الدولية

تعد التفرقة بين كل من الاستراتيجية والعلاقات الدولية أمرًا عسيرًا من الناحية العملية، لاسيما لغير المتخصصين، ومن ناحية أخرى فعلى الجانب التعليمي الأكاديمي، يُعد الاستراتيجية تخصصًا فرعيًا من علم العلاقات الدولية، فمسائل الحرب وإدارة الشئون العسكرية تدخل ضمن نطاق تفاعلات دولة مع غيرها، ومن ثم تُدرس الاستراتيجية باعتبارها أحد مجالات علم العلاقات الدولية.

من الناحية التاريخية فظهور مصطلح الاستراتيجية يُعد أقدم من مصطلح العلاقات الدولية، فالأول ارتبط بظاهرة قديمة جذورها تمتد لما يقرب من عشرين قرنًا، فظهور مصطلح الاستراتيجية واستعمالها ارتبط بالحروب وقيادة المعارك، أما العلاقات الدولية كلعلم فلم يمر عليه أكثر من قرن، وكمفهوم مستخدم لم يظهر إلا في نهاية القرن الثامن عشر، ولم تنشأ العلاقات الدولية فعليًا إلا مع نشوء الدول القومية ومعاهدة وستفاليا.

ختامًا فكتاب “علم الاستراتيجية” للدكتور ألبير رحمة من الكتب المدرسية القيمة التي نجحت في التعريف بأهم مواضيع وقضايا الاستراتيجية دون الاختصار المخل ولا التطويل الممل، وهو كتاب إضافة للمكتبة العربية التي يندر فيها أن تجد مؤلفًا كُتب بالعربية أصالة عن الاستراتيجية، كما أن الكتب المترجمة قليلة نسبيًا، وهو ما يزيد من أهمية هذا الكتاب الذي عرضنا أهم وأبرز محتوياته.