فتح مكة وأهميته الحضارية والاستراتيجية
فتح مكة وأهميته الحضارية والاستراتيجية

كان فتح مكة حدثًا فارقًا في تاريخ الإسلام والمسلمين، وفي حياة النبي العظيم. ومن أهميتها أنزل الله تعالى سورةً كاملةً في القرآن الكريم اسمها سورة “الفتح”، تبشّر بهذا الحدث العظيم؛ الفتح المبين. في هذا المقال نتعرّف على الأهمية الحضارية والاستراتيجية لفتح مكة، ووقائع الفتح وما جرى قبله، وما ترتّب عليه من نتائج.

 

فتح مكة وإزالة مركزيتها الوثنية

قبل ظهور الإسلام، كانت هناك ثلاث مركزيات حضارية في أراضي العرب. كانت يثرب هي المعقل الديني/ الاقتصادي المركزي لليهود في الجزيرة العربية، وكانت مكّة هي المعقل الديني/ الاقتصادي المركزي للوثنية، بينما كانت نجران هي المعقل الديني/ الاقتصادي المركزي للمسيحية، لدرجة احتوائها على كرسي أسقفي لأتباع مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح.

 

فتح مكة
الجزيرة العربية بعد فتح مكة

ولأنه من مقومّات وجود أي مركزية دينية وحضارية واقتصادية – منذ النشأة وحتى البزوغ والسيطرة-، أن تزيحَ المركزيات المغايرة لها وتفتّتها وتصهرها داخلها.. فقد كانت أهم إزاحةٍ وأكثرها أولويّة حصلت للمركزيات الدينية المُغايرة من المحيط السياسي في صدر الإسلام، هي إزاحة المركزية اليهودية من يثرب، وكان ثمنها غاليًا وصل لدرجة أنها تقريبًا كلّفت الرسول حياته.

 

تليها في الأهمية والأولويّة إزاحة المركزية الوثنية من مكّة بعد صراعٍ دمويٍ مرير أيضًا تم من خلال فتح مكّة (في 20 رمضان عام 8هـ/ 10 يناير عام 630م)، وأخيرًا كانت الإزاحة التي حصلت للمركزية المسيحية من خلال تسليم مسيحيي نجران للرسول عبر وفدهم الشهير (عام 9 هـ).

 

من هنا تتضّح الأهمية الحضارية والاستراتيجية لحدوث فتح مكة (الفتح الأعظم / الفتح المبين)؛ حيث كان حدثًا لابدّ من التمهيد له كي يتمّ، وبعد تمامه صارت الفرصة الحقيقية سانحة لبسط سيطرة المسلمين على الجزيرة العربية.

 

الموقف العام قبل فتح مكة

موقف المسلمين

كانت الهدنة التي ترتّبت على صلح الحديبيّة (في ذي القعدة عام 6هـ/ مارس عام 628م) قد أفسحت المجال للمسلمين للقضاء على معاقل اليهود عسكريا داخل المدينة وخارجها، كما أتاحت لهم  المجال لبسط السيطرة على القبائل في شمال المدينة حتى حدود العراق والشام، وفي جنوب المدينة أيضا، لينتشر الإسلام بين القبائل العربية كلها، ويصبح المسلمون هم القوة الأكبر في بلاد العرب.

 

لكن صلح الحديبية وشروطه، لا زال يقف عائقًا أمام المسلمين، ويمنعهم الوفاءُ به من أن يُقدِموا على فتح هذه المدينة المقدّسة ذات المركزية الدينية والاقتصادية والوثنية.

 

موقف المشركين

أدى انتشار الإسلام بين قطاعٍ كبير من القبائل، بما في ذلك قريش، وبقاء قطاعات أخرى على الشرك، إلى تفرّق كلمة القبائل واستحالة اجتماعهم على كلمة واحدة في حربهم ضد المسلمين. حتى في قريش ذاتها، لم يعد ثمّة زعيم أوحد مسيطر يمكنه توجيهها بأوامره وقتما يريد، بل تتشرذم آراؤهم بين متطرفٍ داعٍ للحرب أيًا كانت نتائجها، وبين متريّثٍ معتدلٍ يخشى كارثية الحرب.

 

لكن على جانبٍ آخر محتقِن، كان بنو بكر (حلفاء قريش) يتحيّنون الفرصة للأخذ بثاراتهم القديمة من بني خزاعة (حلفاء المسلمين)، واستثمر بعض كبراء قريش هذه الرغبة وزوّدوهم سرًا بالمال والسلاح، فهجمت بنو بكر على بني خزاعة، وكبّدوهم خسائر في الأموال والأرواح، وحتى حينما التجأت خزاعة إلى البيت الحرام، واصل بنو بكر هجومهم عليهم.

 

كانت هذه الوقعة تعني فضّ الصُلح الذي تم الاتفاق عليه في الحديبية بين قريش بأحلافها، وبين المسلمين بأحلافهم. وهكذا لم يعُد ثمّة مانع أمام المسلمين من التفكير في فتح مكّة واتخاذ الخطوات اللازمة لذلك.

 

إعلان الحرب

سارع عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة المنوّرة، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما جرى، فكان ردّ النبي عليه: (نُصِرتَ يا عمرو بن سالم)، وهكذا عزَم النبيّ عليه الصلاة والسلام على فتح مكّة.

 

وفي المقابل، أرسل عقلاء قريش أبا سفيان بن حرب إلى المدينة ليعيد التفاوض مع النبيّ، على أمل إحياء الصُلح وإطالة مدّته، فهم يعلمون ماذا يعنيه فضّ الصُلح وانتهاء الهُدنة. بعدما وصل أبو سفيان حاول توسيط كبار الصحابة ليوفّروا له الفرصة للقاء النبي، لكنه لم يوفّق في ذلك، وأخبره عليّ بن أبي طالب بأن يعود إلى مكّة، فعاد أبو سفيان وقد اكتمل يقينه بأنّ الحرب قادمةٌ لا محالة.

 

كيف جرت أحداث فتح مكة

تجهيزات الفتح

أصدر النبي أوامره للصحابة والقبائل الموالية له بإنجاز تجهيزاتهم للحركة والحرب، لكن دون أن يفصح عن نيّته ووجهته الحقيقية، وموّه على قصده الحقيقي بأن أرسل سريّة استكشافية إلى وجهةٍ لا علاقة لها بمكّة.

 

وفي اللحظة المناسبة، قبيل التحرّك بالجيش مباشرةً، كشف النبي عن نيّته في التوجّه إلى مكّة، وأرسل عيونه ومستكشفيه ليحولوا دون تسرّب الخبر إلى قريش وحلفائها.

 

قوات المسلمين والمشركين

بلغ تعداد قوات المسلمين 10 آلاف رجل (من الأنصار والمهاجرين وسليم ومزينة وغطفان وغفار وأسلم، وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم من القبائل الأخرى) بقيادة الرسول عليه الصلاة والسلام. بينما كانت قريش مع بني بكر، لكل منهما قائدها الخاص.

 

الطريق إلى مكة

تحرّك جيش المسلمين في رمضان، بعدد وعتادٍ لم تشهده الجزيرة العربية من قبل، وكلما تقدّم الجيش نحو هدفه ازداد عدده بانضمام مسلمي القبائل التي تسكن على جانبي الطريق إليه. ورغم كثافة هذا الجيش وقوّته وأهميته، فقد بقي سر حركته مكتومًا لا تعرف قريش عنه شيئا.

 

مع وصول الجيش إلى موضع “مرّ الظهران” على مسافة أربعة فراسخ من مكّة، عسكر النبي هناك، وأمر كل مقاتل في الجيش أن يشعل نارًا، فظهر معسكر الجيش بشكل مهيبٍ، أضرم الرعب والخوف في قلوب قريش، فسارع وفدٌ منهم إلى معسكر المسلمين ليستشكفوا الأمر. والتقاهم العباس بن المطّلب عمّ النبي وتوسّط لهم وأجار أبا سفيان، ورتّب له مقابلةً مع النبي عليه الصلاة والسلام، فأسلم أبو سفيان، وأكرمه النبي، لكنه أمر العباس بأن يُبقي على أبي سفيان عنده، كي يرى ضخامة الجيش، ويقضي على أية فكرة محتملة لديه للمقاومة، ويضمن ألا يتسرّب خبر الجيش إلى قريش.

 

أيقن أبو سفيان بأن قريش لا طاقة لها بمواجهة جيش المسلمين، فعاد إلى مكّة مذعورًا، ومن ورائه جيش المسلمين الهائل قادمُ في الأفق. تفاجأ أهل قريش بهذا المنظر الصادم، وليست لديهم أن تدابير للقتال أو المقاومة، فاجتمعوا سريعًا، ولم يتفقوا على شيء، وأصبحت مكة تنتظر دخول المسلمين، اختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، واجتمع قسم منهم في المسجد الحرام، وبقي المتشدّدون منهم مصرّين على القتال.

 

خطة فتح مكة

خطة فتح مكة
خريطة فتح مكة في المصادر التاريخية

أصدر النبي عليه الصلاة والسلام أوامره لقادة جيشه بألا يقاتلوا إلا إذا اضطروا للقتال، على أمل أن يتم فتح مكّة بشكلٍ سِلمي دون قتالٍ أو إراقة دماء، ورتّب جيش المسلمين على النسق التالي:

 

  • الميسرة بقيادة الزبير بن العوام، مهمّتها دخول مكة من جهة الشَمال.
  • الميمنة بقيادة خالد بن الوليد، ومهمّتها دخول مكة من جهة الجنوب.
  • قوات الأنصار بقيادة سعد بن عبادة، ومهمّتها دخول مكة من جهة الغرب.
  • قوات المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، مهمّتها دخول مكة من الشمال الغربي من اتجاه جبل هند.
  • تتجمّع القوات في نقطة التقاء بعد الفتح، في منطقة جبل هند.

 

وبالفعل دخلت قوّات المسلمين مكّة دون مقاومة، إلا بعض المناوشات التي واجهتها الميمنة بقيادة خالد بن الوليد عند دخولها مكّة من جهة الجنوب. وبعد أن سيطرت قوّات المسلمين على جميع مداخل مكّة، عسكر النبي بالجيش عن منطقة جبل هند، حيث نقطة الالتقاء.

 

بعد إتمام فتح مكّة

توّجه النبي عليه الصلاة والسلام في أول يومٍ من الفتح، إلى البيت الحرام، وصلى ودار في البيت يكبّر، وشرع في تطهير البيت من الأصنام والصور التي كانت تحيط به وتملؤه، وبهذا قضى على الوثنية في معقلها. واستمرت إقامة النبي في مكة 15 يومًا، نظّم خلالها شئون مكة الإدارية والاجتماعية، وفقّه أهلها في الدين، وأرسل عددًا من المفارز إلى المناطق المجاورة والمحيطة بمكة، لدعوة أهالي هذه المناطق إلى الدخول في الإسلام، وإزالة أصنامهم دون سفكٍ للدماء.

 

الخسائر البشرية لفتح مكة

سقط من جيش المسلمين شهيدان فقط، ومن مجموعات المشركين 13 قتيلاً، وعددٌ من الجرحى.

 

النتائج المترتّبة على فتح مكة

ترتّبت على فتح مكة نتائج مهمّة، نذكر منها:

  • القضاء على معقل الوثنية السياسي والاقتصادي في الجزيرة العربية.
  • دخول مكّة وقريش تحت مظلّة المسلمين.
  • صعود المسلمين باعتبارهم قوة عظمى في الجزيرة العربية، لا يستطيع أي تحالف من القبائل أن يقف في وجهها.

 

مصادر

  • الرسول القائد، محمود شيت خطاب، دار الفكر، بيروت، 1989م.
  • الأطلس التاريخي لسيرة الرسول، سامي بن عبد الله المغلوث، مكتبة العبيكان، الرياض، 2004م.