الأديب الفيلسوف مصطفى صادق الرافعي
الأديب المصري الراحل مصطفى صادق الرافعي

ينقل محمد سعيد العريان في كتاب “حياة الرافعي”، أن الرافعي حتى أواخر عمره “كان يمارس ألوانًا شتّى من الرياضة، وإنّك إذا دخلت مكتبه رأيتَ عُقلةً تتدلّى من السقف، ورأيتَ كرات وأساطين حديدية ملقاة، وأثقالاً من أثقال الرياضة مسندة إلى الحائط”. ويصفه بأنه “كان سبّاحًا ماهرًا، وكانت له في السباحة جولات في “سيدي بشر” حيث الأمواج العاتية”. ويعقّب “كانت عنايته بالرياضة من أسباب قوته البدنية، ومن أسباب قوّته العصبية أيضًا”.

عُرف عن مصطفى صادق الرافعي صولاته وجولاته في الكتابة الإبداعية والنقدية، وعنفوانه في النزاعات الفكرية والأدبية، بدرجةٍ شكّلت زخمًا في الإنتاج الثقافي والفكري في المرحلة التي عاش فيها. فمن هو مصطفى صادق الرافعي؟ وما الذي شكّل شخصيته وأسلوبه لتصير بهذا الشكل المميّز.

كيف نشأ مصطفى صادق الرافعي؟

ولد مصطفى صادق الرافعي في يناير 1880م، بقرية بهتيم بمحافظة القليوبية، لأبوين من أصول شامية، وكان والده هو الشيخ عبد الرزاق الرافعي، من كبار قضاة الشريعة الإسلامية.

ينتهي نسب الرافعي إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بينما ترجع أصول أسرته إلى الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير، المتوفي بطرابلس الشام عام 1814م. وكان أول وافد إلى مصر من سلالته هو الشيخ محمد الطاهر الرافعي، ليتولّى قضاء الأحناف في مصر بأمر من السلطان العثماني، وتوفي في 1827م. وعلى كثرة ما أنجبت الأسرة من الأعلام والنابهين، يُعدّ “مصطفى صادق” أعلاهم شُهرة، ويكفي أنه قد استقلّ بلقب الأسرة عند ذِكره، دون سائر أجداده.

مصطفى صادق الرافعي في مراحل مختلفة من حياته
مصطفى صادق الرافعي في مراحل مختلفة من حياته

درس مصطفى القرآن وعلوم الدين داخل أجواء أسرته، واكتفى في تعليمه بالحصول على الشهادة الابتدائية، التي تعادل الشهادة الإعدادية حاليًا. وفي السابعة عشرة من عمره، أصيب بمرض شديد، كان من آثاره الجانبية أن ثقل سمعه، ولاحقًا مع تفاقم الأمر صار الصمم كاملاً، وهو في الثلاثين من عمره.

لاحقًا، انتقل الرافعي إلى طنطا مع أسرته، واستقر بها، وعكف على مكتبة أبيه الزاخرة بالتراث، فتزوّد منها بمعرفة واسعة عميقة في الدين واللغة وفروعهما، وكان نصيبه من اللغات الأجنبية وثقافتها محدودًا.

في العشرين من عمره، عُيّن الرافعي كاتبًا بإحدى المحاكم، ثم انتقل في عمله عدّة مراتٍ حتى استقر في طنطا، وبقي في وظيفته المتواضعة إلى آخر عمره. وكان يؤدّي عمله بدقّة، وإن كان لا يكترث بمواعيد الحضور أو الانصراف.

شخصية مصطفى صادق الرافعي

قد تبدو شخصية الرافعي لأول وهلة شخصية متناقضة، إلا أن النظر بتمعّن إلى العوامل التي تشكّل شخصيته، كالوراثة والبيئة والموهبة والدراسة والعاهة، يساعد في الإلمام بملامح شخصيته بصورة متّزنة.

نشأ الرافعي في بيئة متديّنة، وفي أسرة مختصة بالقضاء الشرعي، بما يستلزمه ذلك من العلم الديني والالتزام الأخلاقي، مما أسهم في تشكيل حالة التديّن والرسوخ المعرفي التي لازمت الرافعي، إلى درجة لا تكاد يشترك معه فيها أحدٌ من الأدباء المعاصرين له، وعلى النحو الذي كان سبّبًا من اسباب الخصومات والعراك الفكري والأدبي بينه وبين آخرين.

مصطفى صادق الرافعي قبل وفاته بعام، مع الأديب العراقي محمد بهجة الأثري
مصطفى صادق الرافعي قبل وفاته بعام، مع الأديب العراقي محمد بهجة الأثري

كما حفلت المرحلة التي تشكّلت فيها شخصيته، أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20، بملابسات متضاربة، حيث كانت مرحلةً تمكّن الاحتلال البريطاني من مصر فيها، وفي المقابل كانت الجهود الإصلاحية للسيد جمال الدين الأفغاني، ثم جهود الشيخ محمد عبده، وهي الجهود التي أثمرت لاحقًا حالةً من التفاعل الذي وصل درجة الصراع والمعارك الفكرية والأدبية.

وعلى المستوى السياسي، تألّف الحزب الوطني مطالبًا بالاستقلال والحرية، وتألفت أحزاب أخرى منحازة إلى القصر أو إلى الإنجليز، ثم قامت الحرب العالمية الأولى وفرضت الحماية على مصر، ثم حدثت ثورة 1919م التي أجّجت المشاعر الوطنية، ثم سقطت الخلافة العثمانية.

كل هذه الأحداث المتضاربة، شكّلت أجواءً شاع فيها التمرّد على الدين والقيم والتقاليد، وهو ما حفّز النمط المتديّن في المقابل، والذي كان ينتمي إليه الرافعي، على زيادة الاستمساك بالدين والقيم والتقاليد، والحرص على الشريعة والشعائر والآداب، والتصدّر في المواجهات الفكرية والأدبية من هذا المنطلق.

عُرف عن الرافعي تبنّيه لفلسفة الرّضا، فرغم إصابته بالصمم كان راضيًا بقضاء الله ومفعمًا بالأمل أن يكشف الله عنه، ولم يكن متغطرسًا على وظيفته المتواضعة، بل ولم يُظهر أي أثرٍ لضيق حالته المادية على الإطلاق، وكان داعيًا الناس إلى القناعة والرضا، وكان شخصًا اجتماعيًا يحب الاختلاط بالناس ومسامرتهم، دائم البِشر، عليه روح الطفولة، ولم يُعرف عنه قطّ حسدٌ أو سخطٌ على أحدٍ في سبيل نفسه، وكانت طبيعة المرح و التهكم والفكاهة حاضرةً عليه دائمًا، يداوي بها آلامه وآلام الأخرين، كما هي طبيعة المصريين.

الطريف أنّ الرافعي كان دائم الممارسة للرياضات المختلفة، وكان في مكتبه عُقلة تتدلّى من سقفه، ويحتفظ في مكتبه بكرات وأثقال حديدية للتمرين، كما كان سبّاحًا ماهرًا وله جولات في الأمواج العاتية في سيدي بشر.

لكن الميزة الأهم في شخصية الرافعي، كانت اعتداده بذاته، ويرجع هذا إلى إدراكه لمنزلة أسرته في المجتمع، وأنها ترجع في نسبها الشريف إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإلى اعتزازه بانتمائه إلى الدين الإسلامي والثقافة العربية واللغة العربية، واعتزازه بموهبته العلمية والأدبية الرفيعة. ولم يكن الرافعي يصدّر هذا الاعتداد إلا في موطنين: في الحبّ، وفي مقابل ذوي المكانة الزائفة أيًا كانوا.

أسلوب الرافعي

كان أسلوب مصطفى صادق الرافعي متميزا إلى درجة التفرّد، يمتاز بالسلاسة والإيجاز والعمق، كنتيجةٍ لاكتمال أدواته وعزارة مادته وصفاء ذوقه وذكاء فهمه. وفي الوقت ذاته، يمتاز أسلوبه بشموخٍ وتعالٍ، وبذخٍ في اللفظ والمعنى، وتألّقٍ في الصياغة والصورة، بشكلٍ يجعله أسلوبًا متساميًا أبعد ما يكون عن التواضع.

اعتمد الرافعي على الخيال كأساسٍ لعملية الخلق الأدبيّ والفن البياني والابتكار والتصوير، متفقًا في هذا مع أعلام المذهب الرومانيكي من النقاد والفلاسفة. وقد كان الرافعي في أول الأمر يقصد قصدًا إلى إعمال خياله لخلق صور أدبية، فيها جدّة وطرافة وابتكار، منتجًا صورًا ظاهرة الجمال والرقة والشفافية، لكنها غير مؤثرة، إلا أنه مع الوقت – ومع تحرره من تجربة الحب- طوّر أداءه لتصير الصورة أكثر إشراقًا وانسابيةً واتصالاً بالنفس والواقع والناس.

ورغم أن البعض يعتبرون أسلوب الرافعي غامضًا، إلا أنّ التزام خاصية “العمق” في أسلوب الرافعي يجعله خارج نطاق الأدب سهل التناول الذي يستسيغه كل من يجيد القراءة، وإن كان هذا لا ينفي كون أسلوبه أحيانًا غامضًا لا ينكشف معناه للقارئ إلا بعد جهد، بل قد يصعب على البعض لدرجة استعصائه على التفسير، ولكن في مواضع قليلة جدًا.

الحب والجمال في حياة مصطفى صادق الرافعي

أولى الرافعي للحب والجمال اهتمامًا خاصًا في أدبه، لدرجة أنه ألّف أربعة كتب حولهما، وهي: (حديث القمر، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد)، فضلاً عن مقالات متفرّقة في كتابيه: (وحي القلم، والمساكين).

بعض مؤلفات مصطفى صادق الرافعي
بعض مؤلفات مصطفى صادق الرافعي

عرف الرافعيّ الحبّ في سن الشباب، وعاشَ قصص حبٍ متصلة، وتفتّحت ملكاته الأدبية، فنظم الشعر وكتب النثر والمقالات. كان الرافعي متديّنًا في تصوّره للحب، وفي تصويره له، وفي العبارات الدقيقة في تعبيره عنه، إذ كان يرى الحبّ وسيلةً للوصول إلى الإيمان الصحيح، واكتشاف الحقيقة الكاملة، وإدراك لُبّ الفضيلة. ولم ينفصل الجمال عن الحب في كتابات الرافعي وفِكره، واضعًا شرطَ أن يؤثر كل منهما بالتسامي بالنفس وبالنظرة إلى الجمال.

وفي المجمل، كانت آراء الرافعي في الحب شديدة التنوّع، تبعًا للزوايا التي يتناوله منها، وتأثرًا بالانفعال الذي ينطلق منه، لكنها مع ذلك لم تكن آراءً متضاربةً أو متناقضةً جوهريًا من حيث التسامي بهذه العاطفة. وهذا لأنه كان يريد أن يعبّر عواظف أكثر اتساعًا، ويتطرّق إلى جوانب أقرب إلى الشمول والموضوعية، وأبعد عن الخصوصية والذاتية.

ورغم أن البعض لا زالوا يتساءلون مستغربين: هل تزوج مصطفى صادق الرافعي؟ إلا أن الإجابة أنه تزوّج تزوّج، وأنجب، وكان يعيش حياة عائلية مستقرّة.

الرافعيّ ناقدًا

أخذ الرافعيّ على النقد المتوجّه إلى الشعر أنه لا يزيد على أن يكون تعليقًا على كلام الشاعر، فيجيئ عمل الناقد وكأنه تصنيفٌ وشرحٌ لما يقول الشاعر، وبذلك يكون الشاعر هو المتصرّف  في ناقده يديره كيف يشاء، في الوقت الذي ينبغي أن يكون مادّة النقد اطلاعًا وتزوّقًا وخيالاً وقريحةً تؤدّي ثمارها في تكوين النقد الذي يبدع في توجّهه.

ولمّا أنشئت الجامعة المصرية عام 1908م، انتقد أسلوب تدريسها للأدب العربي، وكان من أثر ذلك أن اتّجه إلى التأليف والنقد والأدب النثري بصفة عامة. كما حدثت معارك أدبية وفكرية بينه وبين بعض الأدباء، خاصةَ الذين تلقوا ثقافة أجنبية واشتهروا بوصف “المجدّدين”، واعتبر الرافعي نفسه حاملَ راية الدفاع عن الإسلام والشرق والعروبة واللغة العربية.

وفاة الرافعي

استيقظ مصطفى صادق الرافعي، صباح الاثنين 10 مايو 1937م، وهو يشعر بحرقةٍ في معدته على إثر وجبة عشاءٍ من البطارخ تناولها في الليلة السابقة، وبعد وقتٍ وجيزٍ صعدت روحه إلى بارئها، ودُفِن بعد ظُهر ذلك اليوم في مقبراة الرافعي بطنطا بجوار أبويه.

كتب الرافعي

كان الرافعي أديبًا غزير الإنتاج، وفيما يلي نستعرض أبرز مؤلفاته بحسب تاريخ كتابته لها:

– ديوان الرافعي (3 أجزاء)، صدرت بين عامي 1903 و 1906م.

– ملكة الإنشاء، أعدّه للنشر عام 1907م، ولكنه لم يُنشَر.

– ديوان النظرات، صدر عام 1908م.

– تاريخ آداب العرب، صدر عام 1911م.

– حديث القمر، كتبه بعد رحلته إلى لبنان عام 1912م.

– نشيد سعد باشا زغلول، عام 1923م.

– رسائل الأحزان، كتبه عام 1924م.

– السحاب الأحمر، صدر بعد رسائل الأحزان بأشهر.

– المعركة تحت راية القرآن، صدر عام 1926م.

– على السَّفود.

– أوراق الورد، تكملة لكتابيه رسائل الأحزان والسحاب الأحمر.

– وحي القلم، وهو مجموع مقالاته التي كتبها بين عامي 1934 و1937م.

مصطفى صادق الرافعي وكتابه وحي القلم
مصطفى صادق الرافعي وكتابه وحي القلم

أقوال عن الرافعي

– (العالم أمام الرافعيّ كتابٌ مفتوح يُدرك فيه جمال الحروف، وحُسن السطور، ثم ينفذ إلى مالا ينتهي من المعاني، وما يزال يعرض المعنى الواحد في صورٍ رائعة حتى يدع القارئ معجبًا حيران). عبد الوهاب عزام في مجلة الرسالة، 1937م.

– (مات الرافعيّ فانطوتْ صفحة من تاريخ الأدب في مصر، وانقرض جيلٌ من أدباء العربية كان له مذهب ومنهاج). محمد سعيد العريان في خاتمة كتابه “حياة الرافعي”، 1939م.

– (كان في الأخلاق الكريمة والتمسّك بآداب الإسلام أمّةً وحدَه). محمود أبو رية في كتاب “رسائل الرافعي”، 1969م.

 

المصادر

– حياة الرافعي، محمد سعيد العريان، القاهرة، 1939م.

– مصطفى صادق الرافعي، د. كمال نشأت، دار الكتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968م.

– مصطفى صادق الرافعي فارس الكلمة تحت راية القرآن، د. محمد رجب البيومي، دار القلم، دمشق، 1997م.

– الإمام مصطفى صادق الرافعي، مصطفى نعمان حسين البدري، مطبعة دار البصري، بغداد، 1968م.

– القضايا الفنية والفكرية في أدب الرافعي (مجلدان)، د. أحمد جاد صالح شاهين، الوعي الإسلامي، الكويت، 2019م.

– تأملات في أدب الرافعي، وليد كساب، دار البشير للثقافة والعلوم، القاهرة، 2016م.